المرة، وإذا به يرى أن الأفق لم يك في صفائه صادقاً، وإذا به يطوي صفحة أفكاره وفي النفس حسرة وفي القلب ألم. . . ما الذنب الذي جنى؟ وما الشر الذي اقترف؟ الذنب الذي ارتكبه أنه لم يدرك معنى الاتزان مع البيئة فترك الأرض ليبحث في السماء. وما علم أن على الأرض من يجزع ويحقد على كل من يحاول الخلاص من قيود التراب الأرضي!!
قلت: هذا كلام يشعرني بأنك تريد أن تقول شيئاً وراء اللفظ، أو أنك تميل يا بني إلى توجيه القول لكاتب كبير فاضت حيويته وضاقت بقيود الأرض وكل ما يتصل بمعانيها. أكاد أشعر بهذا ولي الحق في أن أشعر به، بل أكاد ألمس غضبك كلما تذكرتَ اختناق تلك المعاني الرائعة التي انطلقت في غفوة من الزمن من روح هذا الكاتب الكبير. ولكن هذا الكاتب الكبير يعلم حق العلم أن الحيوية تفرض عليه الاتزان مع البيئة فلا محل للومه هو. . . بل اللوم كل اللوم لحيويته الدافقة التي ضاقت بالأرض فانطلقت إلى السماء. . .
الحيوية يا بني لها أكبر الخطر في الأدب. فالحيوية الفكرية ليست حبساً على غزارة مادة الكاتب أو الشاعر، ولا هي رهن بمقدار ما يروى عنه، وإنما هي سر من أسرار النفس والفطرة. يودعه الكاتب أو الشاعر قوله فيضمن له على الدهر الخلود. فإن من الشعر ما تزداد فيه الحيوية حتى لا تقف به عند حد الخلود، بل إنه ليضفي الحياة على ما يمسه من الموضوعات، ويكاد يبعث من طواهم الثرى من الناس بعثاً يختلف قوة وضعفاً، ويتباين سعادة وشقاء. فمن لا يذكر سيف الدولة كلما ذكر المتنبي؟ ومن لا يذكر كافوراً كلما تناول شعر أبي الطيب؟ ومن لا يذكر حرب البسوس كلما جال بخاطره رثاء مهلهل لأخيه كليب؟ ومن لا يذكر مالك بن نويرة كلما قرأ شعر أخيه متمم؟ ومن لا يرثي لمقتل (صخر) كلما سمع نواح الخنساء عليه؟ ومن لا يذوب أسى كلما ذكر قصيدة شوقي طيب الله ثراه في رثاء (مقدونية)؟ ولقد يكون من الشعر ما يُقوِّى عناصر الحياة حتى في الحقائق العلمية والاجتماعية، ومن حكم المتنبي ما هو أصدق شاهد على ما نقول، وليس بأقل منه قول شوقي في قصيدته (نهج البردة) يدفع عن الإسلام دعوى أنه قام على أعضاد السيوف:
قالوا: غزوت ورسل الله ما بعثوا ... بقتل نفس ولا جاءوا لسفك دم
جهل وتضليل أحلام وسفسطة ... فتحت بالسيف بعد الفتح بالقلم!
قال: ومن حيوية الكاتب العبقري أن يخلص من قيود الحياة المضطربة الثائرة فينطوي