للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

المكان إلا من جريح يئن، وفرس يحمحم؛ وتحامل على نفسه وضاح فضمد جرحه وركب جواده وقفل راجعاً إلى أهله.

قضى المسكين شهرين على فراش الألم يتضور من ضربان الجرح وهذيان الحمى وثوران الحب. ولكن الجرح كان قريب الغور فاندمل، والحمى كانت عارضة فأقلعت، والحب؟ هذا هو المرض المخامر والداء العياء، فليس له غير الله من آس ولا طبيب، لذلك نصحوا لوضاح أن يحج البيت فشد إليه رواحله. وسنلقاه هناك بعد قليل.

- ٤ -

أذن مؤذن الحج للمرة الثمانين بعد الهجرة، فسالت فجاج الجزيرة بالقباب والهوادج، وشرقت دروب الحجاز ومسالكه بالناس رجالاً وعلى كل ضامر، واكتظت بطاح مكة ورباعها بالحجيج من الشام والعراق واليمن، ودوي الفضاء المشرق بأصوات التهليل والتلبية، وروي الثرى المكروب من دماء البدن والضحايا، وتعطر الجو القائظ بأنفاس الحسان الغيد، وفاضت أندية مكة النبيلة بالقصف والعزف والغزل، وخرج الشعراء من بني الأنصار والمهاجرين في مطارف الخز وبرود الوشى على النجائب المخضوبة، يتعرضون للغواني المحرمات، ويقطفون من فوق شفاهها اللعس ألفاظ الدعاء، قبل أن ترفع إلى السماء، وهناك على الربوة العالية ضرب الفسطاط الرفيع العماد، وفرشت الطنافس، ونصبت الأرائك، وصفت النمارق، ونضدت الوسائد، وقامت الجواري والولائد، وعلقت السدول والستائر، وبرزت من خلالها زوج الخليفة في زينتها وفتنتها ترسل النظر تارة إلى الأفق البعيد، وتارة تتصفح به الوجوه المختلفة والأزياء المتعددة، والناس يتحامون جانبها ويتهيبون ظلالها لهيبة الملك وشراسة الجند وجلال الخلافة. حتى الشعراء من شباب الهاشميين وخلفاء ابن أبي ربيعة لم يجرؤا أن يمدوا إلى جمالها الفاتن عيناً ولا لساناً، لأن الخليفة كتب (يتوعد الشعراء جميعاً أن ذكرها أحد منهم أو ذكر أحد ممن تبعها) ولكن الملكة تريد على رغم الملك أن تكون من عرائس الشعر، وأن تظهر في ديوان الشاعر، كما ظهرت في ديوان الملك. والشعر في الحجاز كان حينئذ للمرأة، يصف حالها ويعرض جمالها فتصل من طريقه إما إلى الزواج وإما إلى الشهرة. فتراءت الملكة للناس وسهلت للغزالين الحجاب.

<<  <  ج:
ص:  >  >>