للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وكان وضاح يومئذ مشغولا عن الشعر والشعراء بنفسه، فهو يطوف بالبيت ويتعلق بستور الكعبة، ويسأل الله انه يشعب قلبه بالسلوة. حتى إذا خرج الحجيج إلى عرفات وتطاولت الرقاب، وتطلعت العيون، وأومأت الأصابع إلى موكب الملكة الحاشد، جذبه جلال الحاجة النبيلة وجمال وصائفها فدنا من فلكها، فوجد كهنة الحب وشياطين الشعر يسايرون ركابها ويراقبون سناها. فمشى بجانب الشاعر كثير، ووقعت عين الملكة عليه فراعها جماله، وعلقتها حباله. فأشارت بطرف العين إلى جاريتها غاضرة فأثبتت معرفته.

فلما أفاض الناس من عرفات، وانحدروا إلى مرمى الجمرات، وقفت بجانبه فتاة فتانة ناهد، وأسرت إليه وهو يرجم الشيطان أن الملكة تريد لقاءه في مخيمها على (منى)

اضطرب وضاح لهذه الإرادة وخشي عاقبة هذه الدعوة، وتردد طويلا في الذهاب إلى هذا الموعد، لان هذا الحب الملكي اكبر من عواطفه، ولان قلبه الجريح لا يزال يقطر في لفائفه، ولأن خيال (روضة) يعتاده في جميع مواقفه، ولكنه عربي!! والعربي طماع طماح مخاطر. فلماذا لا يبذ الشعراء ويكبت الأعداء بالسبق إلى جمال الملكة ومال الخليفة؟؟

أمسى المساء، وكان هلال ذي الحجة قد توارى بضوئه الشاحب خلف الجبل، وأخذت الأضواء المنبعثة من بواقي المشاعل والمصابيح والكوانين تكافح ظلمة الغسق، والقي الناس أرواقهم على الرمال مجهودين بعد نهار قائظ احمرت حواشيه من دماء القرابين، وضرب الكرى على آذان العامة فلم يبق يقظان إلا ذوو الحس الرقيق ممن جرهم جمال الليل إلى جمال السمر، وإلا نفسان شاعرتان بسط الحب عليهما جناحه، وأزال ما بينهما من فروق، ورفع ما يفصلهما من حواجز، حتى التقى ابن آدم ببنت حواء وجهاً لوجه، وأقبلت الملكة على وضاح اليمن تناقله الحديث، وتساجله الشعر، وتنصب له شرك الفتنة في مطاوي اللفظ، وتسدد إلى قلبه سهم الغواية في مرامي اللحظ، وحسبنا أن نروي من هذا الحديث المشفق العذب هذا الحوار:

- وكيف حال روضة بعدك يا وضاح؟

- على شر حال وا أسفاه! زوجوها من موسر مجذوم فأعداها بالجذام!!

- وما حالك أنت من بعدها؟

- أما قبل هذه الليلة فكنت لا انتفع بنفسي ولا اشعر بوجودي

<<  <  ج:
ص:  >  >>