وتحديد الشخصية، وبيان موضع صاحبها وفنه الأصيل في معترك الحياة الصاخبة الدوّارة. فأنت يا بني تدهش من تعدد مواهبك، وتعجب من تباينها، وتحار في تعليل ميلك إليها، وتوفرك على أسبابها؛ ولكن الأمر لا يحتاج إلى أكثر من التأمل في منابت هذه الاتجاهات وأصولها، فأنت تميل إلى الرسم وتمارسه، وتجيد الشعر وتطرب له، وتندفع وراء العمق في الفكرة جرياً وراء الفلسفة وطلباً لمنبهم الأسرار. . . وكل أولئك لو تأملت يا بني من مصدر ومبعث واحد يرجع إلى حساسية الشعور، وشفافية الوجدان، ويقظة التفكير. على أنك لو تأملت طويلاً لرأيت أن هناك حيوية خاصة غالبة على كل هذه الاتجاهات. . . تلك هي عمق الفكرة والجنوح إلى التأمل العميق. وإنك لتجد الصدق هذا القول صوراً من الشخصيات في مطاوي الزمن. فقد كان إسحاق الموصلي متعدد المواهب بعيد مدى الآمال، متباين الميول. وكان إذا ناظر أهل الكلام انتصف منهم، وإذا تكلم أو عالج الفقه أحسن وقاس واحتج وبلغ في قياسه واحتجاجه الغاية. وإذا أخذ بأسباب الشعر واللغة فاق وارتفع، ولكنه كان في الغناء أكثر حيوية، وكان الغناء أدنى ما يوصف به وإن كان الغالب عليه. على أنه كان أكره للاشتهار بالغناء والتسمي به!
قال: إن في نفور إسحاق يا والدي من الغناء وهو ما اشتهر به وذهب له صيت ذكر، لطرافة وموضعاً للتأمل.
فإن للحيوية جناية كبرى على أربابها. ولقد أصاب إسحاق من الحيوية ألم عظيم وضياع للفرص السوانح؛ فقد كان المأمون يقول: لولا ما سبق لإسحاق على ألسنة الناس، وشُهر به من الغناء عندهم لوليته القضاء، فإنه أولى به، وأحق وأعف، وأصدق تديناً وأمانة من هؤلاء القضاة. . .! فما أشد ألم إسحاق لضياع ما كان يتطلع إليه! وما أخطر جناية الحيوية على أربابها! ولعل الهدف الأول لجناية الحيوية هو صاحب الفكر الحر من أنصار العقيدة، وأرباب المذاهب الفكرية. فكم رجل من حر العقيدة، صادق الإيمان، دفعت به حيوية الفكرة التي يعتنقها، ويتمسك بأسبابها، ويناضل في سبيلها إلى الخوض في مرابط الهلكة. . . لا تمنعه رهبة، ولا تقطعه هيبة، ولا يدركه نصب، ولا يتداخل جهاده تردد، فإذا رأيت في حياتك رجلاً قد طوقته الشرور، وترامت عليه النقم، وأقصى عن مواطن النعم، وحرم كل ما هو في متناول غيره، فلا تتردد في أن تنسبه إلى رجلين: رجل انسلخت حقيقته من