فمن يحاول عزل (الأدب) عن كافة القوى الأخرى المتضامنة في الحياة العامة، ويشككه في واجب تضامنه مع تلك القوى، وارتكازه أبداً إلى ضمائر الشعب وأحلامه القدسية، ويزعم أن في عودة الأدباء بقلوبهم الشريدة إلى وطنها المأنوس بين قلوب قومهم بعد طول انتظار للوفاء والبرد والنبل ما يثير شهوة الفضول والعجب الأبله، لا يفهم الأدب إلا فهماً بوهيمياً، ولا ينتج فيه إلا ضرباً من الكلام ينهمك فيه الطابع، والمصحح والناشر، والناقد، ليعالج به أخيراً ملل تافه. . .!
إن هذا الذي كتب في اتجاه رجال الأدب في العصر الحديث لا نتهمه بالمغالطة حين زعم ثانية أن تأريخ عصر النبوة رجعية، إذ كانت المغالطة مطوية على ذكاء وفهم في الواقع وإن لم يكن ذكاء شريفاً، وإنما نتهمه بالغلط الذي لا يرادف التجاهل ولكن يرادف لفظاً آخر. ما معنى الرجعية؟ أليست هي الانتكاس والتقهقر، وإيثار الأدنى على الأعلى؟ فأي سمو وقع دونه الرجال الذين يؤرخون عصر النبوة؟ وأية فكرة أو حقيقة تكشفها دراسة هذا العصر تنحط مرتبة عما تكشفه دراساتهم الأخرى في موضوعات أخرى؟ وأي شر تبتلي به حياتنا العقلية - ودع عنك حياتنا الوجدانية التي هي محور كل عمل أدبي - إذا أضيفت هذه الدراسة إلى سائر الدراسات التي استبدت بأقلام الكتاب منذ كانت لهم أقلام؟ ألا تجد عقولنا فيها من عافية الفكر وأريحيته ما يتلمسه الضمير الإنساني في كل ثقافة كائنة ما كانت ليصح به ويترعرع ويزكو؟!
هذه أسئلة لا تطلب جوابها من أحد، ولا تستجديه، فهو ملء كل نفس تفهم (الأدب) ولا نزري بقدره. لا، بل إنه إذا كان كل شيء في الحياة يتشكل ويتطور، لكي لا ينبو عن طبيعة جوه، ومقتضيات بيئته، فما بد من أن يتحدث الأدب في كل عهد بلغته، ويتوخى من هذه اللغة ما يشوق الأذن الماثلة، ويجاوب الحنين الساري، ويجعل البعث المرتقب، ونحن نعيش في حقبة من تاريخنا لا يصلح لها إلا هذا، فلو اشتغل الأدب بما يبعد كثيراً أو قليلاً عن هذا النهج لكان ملتوياً على روح الشعب، جامداً عن مجاوبته، وتلبية حاجته، ومثله في هذه الحالة - وفي المنطق البوهيمي - كمثل اللحن الناعم النائم تعزفه لجنديّ راحل إلى الجبهة!. . .