للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إليه في الساعة التي تنال فيها هذا الغذاء. وتستطيع أن تجيب بأن في هذا اللحن كل شيء وأسمى فكرة، وأنه يتناول أجل ما في الحياة من معان وصور.

وذلك شأن مسرحية شهرزاد، فلا شيء ولا فكرة فيها وفيها كل شيء وكل فكرة. فالملك شهريار الذي قتل زوجه الأولى وقتل معها العبد الذي وجده في أحضانها قد أقام يقتل عذراء في كل ليلة انتقاماً لنفسه من غدر النساء، حتى تزوج شهرزاد، لكنه لم يقتلها لأنها بدأت تقص عليه أحسن القصص ولا تتم قصتها إذا كان الصباح. وتعود إليها إذا جن الليل، حتى انقضت ألف ليلة وليلة، وشهرزاد لم تكن إلى يومئذ تبلغ العشرين. كيف لها إذن أن تعرف كل هذا الذي تقصه؟ وكيف تراها وهي تعرف ذلك كله لا تريد أن تبوح لشهريار بسرها وسر الطبيعة وسر الكون كله. هذه مسرحية توفيق الحكيم من أولها إلى آخرها، هي كما ترى لا شيء ولا فكرة فيها. ولكن لا، ففيها كل شيء وكل فكرة، استمع إليه حين يصور هذه الفكرة الأساسية التي تنتظم المسرحية كلها على لسان شهريار حين يثور بشهرزاد لأنها تلح عليه في أن الحياة ليس بها ما يستحق العلم، وأنها لا سر فيها، وأنها هي - شهرزاد - ليست إلا امرأة ككل النساء ذات أم وأب وماض معروف، يثور شهريار ويتحدث كمن به مس، وكمن يتحدث إلى نفسه فيقول:

قد لا تكون امرأة، من تكون؟ إني أسألك من تكون؟ هي السجينة في خدرها طول حياتها تعلم بكل ما في الأرض كأنها الأرض! هي التي ما غادرت خميلتها قط، تعرف مصر والهند والصين! هي البكر تعرف الرجال كامرأة عاشت ألف عام بين الرجال، وتدرك طبائع الإنسان من ساميه وسافله، هي الصغيرة لم يكفها علم الأرض فصعدت إلى السماء تحدث عن تدبيرها وغيبها كأنها ربيبة الملائكة، وهبطت إلى أعماق الأرض تحكي عن مردتها وشياطينها ومساكنهم السفلى العجيبة كأنها بنت الجن! من تكون تلك التي لم تبلغ العشرين قضتها كأترابها في حجرة مسدلة السجف! إما سرها؟ أعمرها عشرون عاماً، أم ليس لها عمر؟ أكانت محبوسة في مكان، أم وجدت في كل مكان؟ إن عقلي ليغلي في وعائه يريد أن يعرف. . . أهي امرأة تلك التي تعلم ما في الطبيعة كأنها الطبيعة؟))

أسمعت؟ إن بنا ظمأ لأن نعرف. ولكنا لا نستطيع أن نعرف، وما نزعم أننا عرفناه اليوم سيقول أبناؤنا غداً إنه حديث خرافة، كما نقول نحن عما عرف أجدادنا أنه حديث خرافة،

<<  <  ج:
ص:  >  >>