إعجابنا ليس ما يثيره هذا المنظر من شفقة أو رعب؛ بل هناك سبب آخر هو استيقاظ عاطفة الجمال والسمو التي هاجتها عظمة المنظر وامتداد البحر واصطخاب الأمواج المزبدة وقصف الرعود المدوية، ولكننا لا نفكر لحظة في أن هناك بؤساء يقاسون ويألمون وقد يموتون وإلا صار المنظر فظيعاً لا يمكن احتماله
وهناك نظرية أخرى تخلط عاطفة الجمال بالعاطفة الخلقية، والعاطفة الدينية، وتضع الفن في خدمة الدين والأخلاق، وتحيل غايته أن يرفعنا نحو الله ويهذب من أخلاقنا. وهنا يجب أن نذكر تفرقة ضرورية: إذا كان كل جمال يحوي جمالاً خلقياً، وإذا كان المثال يرقى دائماً نحو اللانهاية، فإن الفن المعبرَّ عن الجمال المثالي يطهر الروح ويرفعها نحو اللامتناهي أي نحو الله. فالفن يؤدي إذن إلى كمال الروح بطريق غير مباشر. والفيلسوف الذي يبحث عن المعلولات والعلل يعرف المبدأ الأخير للجمال ومعلولاته الحقيقية والبعيدة، ولكن الفنان فنان قبل كل شيء، وما يحييه هو عاطفة الجمال، وما يريد إيصاله إلى القلوب هو نفس العاطفة التي تملأ قلبه هو. هذه العاطفة هي رباطٌ بين العاطفة الخلقية والعاطفة الدينية، توقظهما وتحفظهما، ولكنها متميزة عنهما. والفن المؤسس على تلك العاطفة هو استطاعة غير حرة، فهو يشارك بطبعه في كل ما يعظم الروح في الأخلاق والدين، ولكنه لا يرقى إلا بنفسه. وحين يسترد الفن حريته وكرامته وغايته الذاتية، فإنه لا يمكن فصله عن الدين والأخلاق والوطن، لأن الفن يقتبس إلهاماته من هذه المنابع العميقة، كما يقتبسها من الطبيعة. والفن والوطن والدين قوى لكل منها عالمه الخاص، وبينهما اتحاد متبادل، فإذا ابتعد أحدها عن الآخرين ضل السبيل. ولكن ذلك لا يجعل الفن خاضعاً لقوانين الدين والوطن وإلا فقد سحره وجماله بفقدانه حريته
واتحاد الفن والدين والوطن لا يضر باستقلال كل منها، ونتأدى من ذلك إلى أن الفن نوع من الدين. فالله يتضح لنا بواسطة فكرة الحق وفكرة الخير وفكرة الجمال، وهي ثلاث فكرات متساوية فيما بينهما، تؤدي كل واحدة منهما إلى الله لأنها تأتي منه. والجمال الحقيقي هو الجمال المثالي، وهذا الأخير انعكاس اللامتناهي، وعليه فالفن يعبر في أعماله عن الجمال الأبدي. وكل عمل فني، إذا كان جميلاً سامياً، تمثالاً كان أو أغنية، أو غير ذلك، يلقى بالروح في حلم عظيم يحملها نحو اللامتناهي. واللامتناهي هو الحد المشترك