للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أنشأوني معهداً عالياً نموذجياً ولم تمتد أيديهم إلي، إذاً لكنت اليوم جديراً أن أكون قريناً لك بل منافساً شريفاً يحاول أن يسبقك في ميادين العلم والبحث والإنتاج!

وأما صدمتي الأخرى فقد أصابتني قريباً، وكانت صدمة عنيفة زلزلت مكاني، وقوضت أركاني، وشطرتني شطرين رمت أحدهما إلى العاصمة الغربية فزحمت به معهد طنطا، واحتفظت بأيسر الشطرين في دمنهور فأقامته في (كُتّاب) لجمعية تحفيظ القرآن ثم قالوا عن هذا (الكُتّاب) وأنا أكاد أذوب خجلاً: هذا معهد الإسكندرية

لقد أنزلوك على الرحب والسعة إحدى دورهم الفسيحة الأرجاء العالية البناء، ولن تمضي عليك بضع سنوات حتى تكون لك مدينة جامعية في رمل الإسكندرية تشرق على بحر الروم كما تشرق مدينة الجامعة الأولى على نهر النيل، أما أنا فقد قضيت حياتي في مكانين متباعدين في مدينة الإسكندرية شمالاً وغرباً: أحدهما زقاق غير نافذ من أزقة السيالة تكتنف البيوت فيه داري، ويعلو الباعة المتجولين في كل صباح ضجيج من حولي؛ والآخر دار بنوها، وكأنما كان مهندسها ينظر في ضمير الغيب إلى ما حدث الآن فبناها على نظام ثكنات الجيوش. نعم بنوها، ولكن في أي مكان؟ في (القباري) موطن المصانع ومستودعات البترول و (مغالق) الخشب، ومخازن السكك الحديدية وطريق الإسكندرية كلها إلى (السلخانة) ومدابغ الجلود!

(وفكر) الأستاذ الأكبر المراغي في أن يبني لي داراً تليق بمكانتي، فأمر رجاله أن يرودوا الإسكندرية وضواحيها مكاناً مكاناً فرادوها، وقيل للناس أنهم قد انتخبوا مكاناً فيها، ثم انتهى الأمر بالمشروع إلى هذا الحد فكتبت فيه تقريرات أضيفت إلى سجل التقريرات عن سائر المشروعات!

وليتني بقيت في الإسكندرية حيث كنت، ولكنهم حفظهم الله قد خافوا الغارات، وقذائف الطيارات، ففروا بي من قضاء الله إلى قضاء الله. فهذه هي صدمة الأخيرة التي حدثتك يا أخت عنها، فإذا بدا لك أن تسأليني: كيف جاز لمعهد أزهري أن يفر من الإسكندرية قبل أن تفر مدارسها الابتدائية بل مدارسها الإلزامية ورياض أطفالها، فإني أجيبك على البداهة بأن لنا معاشر الأزهريين فلسفة خاصة في القضاء والقدر والصبر على النوازل والثبات للشدائد؛ فلسفة تقضي علينا أن ننصح الناس بالرضا عن ذلك كله، واحتمال ذلك كله

<<  <  ج:
ص:  >  >>