حوله من رعب بالغ بعض من رجال الدين في تفظيع الموت، وهولوا من شأنه تهويلاً تنخلع له القلوب، وتقشعر منه الجلود، لأنهم رأوا في ذلك درساً قاسياً يردع المجرم عن أجرامه، ويزع الآثم عن أثمه، ولكن أخشى أن يكونوا قد أفرطوا إفراطاً شل النفس وأشاع فيها اليأس. وأنهم - وقد عهد إليهم أن يعادلوا بين الترغيب والترهيب - قد أرهقوا كفة الترهيب حتى ثقلت وهوت، وخففوا كفة الترغيب حتى شالت وعلت - ولعل هذا كان من الأسباب التي جعلتنا نتسخط الحياة ونتبرم بها. ثم ما هذه الأخلاق التي هي أشبه ما تكون بأخلاق العبيد! لا ندعى للخير إلا بالعصا، ولا تطلب منا الفضيلة إلا بالسياط؟
أليس خيراً من ذلك أن يحدونا إلى الخير الحب. لا أن يسوقنا إليه الرعب؟
ثم زاد الموت سوءاً ما أحاطه به الأحياء من مظاهر الفزع والألم، فصراخ تنفطر له المرائر، وبكاء يذيب لفائف القلوب، والناس حول الميت بين ساهم البصر، ومطرق الطرف، ومكروب النفس، وناكس الرأس، يتأوه الآهة تنقصف منها ضلوعه، ويزفر الزفرة تتصدع منها نفسه - لست أظن أن هذا وأمثاله من طبيعة الإنسان، قد يكون من طبيعته الحزن على فقد القريب والصديق، ولكن ليس من طبيعته الجزع، فلو اعتاد قوم أن يقابلوا الموت كما يقابلون أية ظاهرة طبيعية في الحياة لزال الجزع وخف الألم، كما حدث عند بعض الأمم، استطاعوا أن يضبطوا عواطفهم وينفقوا من الحزن بقدر، وأن يرددوا قول القائل (مات الميت فليحي الحي) وتفاخروا بالجلد كما نتفاخر بالجزع، وتواسوا بالثبات كما نتواسى بالهلع.
ثم كان من الأدباء ما كان من رجال الدين: حزنوا للشيب إذ فقدوا الشباب، أكثر مما فرحوا بالشباب يوم أن كان، ووقفوا في مراثيهم موقف النادبات في المآتم، يعجبون كيف كان الموت وكيف نزل، ويلهبون عواطف الناس، ويثيرون أشجانهم، ويعدون أقدرهم على القول وأقربهم إلى الإجادة من عرف كيف يستخرج الدمع ويستنزف الشؤون، فكان من هذا وذاك إفساد عواطف الناس نحو الموت ودفعهم إلى التغالي في المشاعر.
ثم أخطأ الناس في القياس، فظنوا أن النفس تألم في الحياة الأخرى بما تألم به في الحياة الدنيا. ظنوا أن القبر يوحش بعزلته كما يستوحش الحي من عزلته، وأن القبر يرهب بضيقه وظلمته، كما يتبرم الحي بضيق المكان وظلمته، وأن الميت يألم من البرد القارس