التي تتم العمل المدرك المتصور بتحقيق تلك الوسائل المرتبطة في الذهن. والعالم مليء بالأذهان التي لا تنقصها المخيلة ولا الانفعال، حتى ولا ملكة الترتيب والتنظيم والربط، ومع ذلك فهي أذهان مجدبة لا تنتج شيئاً بل تعيش هي وحدها فيما تتصور وتحلم به؛ وقد تكون تصوراتها جميلة، ولكنها لا تخرجها للناس، لأنها تفتقر إلى الإرادة والصبر، وهما عنصران هامان في الإنتاج. وهناك عنصر أخير هو الإلهام يقدمه لنا في الحقيقة الحساسية - طبيعية أو مكتسبة - والمخيلة، ولذلك لا يمكن للإنسان أن ينتج بالإلهام وحده شيئاً خالداً باقياً.
ولابد للعبقري من الصبر والمجالدة والصراع، حتى يتوصل إلى ما يصبو إليه. وقد قال بيفون إن العبقرية صبر طويل ويمكن أن نمثل لذلك بالعالم الرياضي الكبير نيوتن، فهو - باعترافه - لم يصل إلى تلك النتائج العلمية المدهشة إلا بصبره وطول أناته وقوة إرادته. وقد سئل كيف أمكنه اكتشاف الجاذبية الأرضية؟ فقال: بطول تفكيري فيها دائماً. ويستلزم الصبر إرادة قوية. ووجود الإرادة كعنصر في شيء ما يعني وجود الحرية بالضرورة، فلا إرادة إن لم تكن هناك حرية اختيار، وما دامت الإرادة عنصراً في العبقرية فإن هذا يبعدنا عن النظريات التي تجعل من الرجل العبقري نتاجاً ضرورياً أوجدته الظروف والبيئة، كما تنتج النبات والحيوان، أي أنها تجعل منه شيئاً أوجدته القوى الطبيعية بالصدفة السعيدة فقط، وتعتبره غير مسؤول عن أفعاله وإنتاجه إلا كما يعتبر حصان جميل مسئولاً عن جماله، أو شجرة عالية مشذبة عن علوها وتشذيبها، والواقع عكس ذلك تماماً، فهناك إرادة، وهناك بالتالي حرية
ولكن إذا كانت كل تلك العناصر تدخل في تكوين العبقرية، أفلا يمكن أن يكون للتربية أو التعليم أثر في تكوينها كذلك؟ إن القول بأثر التربية في تكوين العبقرية يبدو لأول وهلة غريباً وشاذاً لأن العبقرية هبة طبيعية، ويظهر أنها أولية وسابقة على كل اكتساب، ومستقلة عن كل تربية مقصودة. والواقع إن الجانب الطبيعي في العبقرية هو الأكبر، فالمخيلة والحساسية والعقل والإرادة كلها هبات طبيعية، ولكن ذلك لا ينفي أن يكون للتربية أثر في هذه الملكات. فيمكن توجيه المخيلة مثلاً نحو الخير والشر بالتربية والتعليم والقراءة وغير ذلك. كذلك تنمو الحساسية وتزيد في هذه الناحية أو تلك تبعاً لما يصادفنا من