الظروف والملابسات المختلفة والمشاركات الوجدانية والنفور؛ كذلك يقوي العقل والإرادة بالعمل والتمرين. فالتربية إذن لا يمكنها - أن تخلق العبقري؛ توقظ فيه جرثومة عبقرية وتساعده على الوصول إلى مبتغاه. وليس هناك - قبل كل شيء - هوة عميقة تفصل بين النبوغ والعبقرية، وإن تعليماً وتربية صحيحين وكاملين يمكنهما أن يخرجا للأمة عدداً من القيم العليا والأذهان القوية في جميع أنواع النشاط العقلي، أكبر مما ينتج لو تركنا أمر تكوين الشخصية للصدفة أو الاتفاق فحسب. وتضطلع الأمهات بأكبر نصيب من التربية؛ فإن أثرهن كبير جداً على أطفالهن. والمشاهد إن معظم العباقرة - إن لم يكن كلهم - كانت أمهاتهم نساء ممتازات ذوات قلوب كبيرة وحنان بالغ ووجدانات حارة توقظ في الأطفال قواهم النائمة الخامدة، وتضيء ما أظلم من نفوسهم. وقد شبه أحد الكتاب الإنجليز فعل الأم على طفلها بفعل أشعة الشمس على الفاكهة
هناك نقطة أخيرة يجب الإشارة إليها وهي تتعلق بتشبيه بعض المفكرين العبقرية بالجنون، وعلى رأس هؤلاء المفكرين ليلى فقد يرى ليلى أن العبقرية ضرب من الجنون، وحاول أن يطبق نظريته هذه على سقراط وبسكال، فكان يرى في سقراط رجلاً معتوهاً مدعياً للوحي؛ وأن الشيطان الذي كان يسمعه في سجنه إنما هو صوت خيالي ابتدعه الفيلسوف نفسه من عندياته، فليس ثمة وحي في الحقيقة أو شيطان. ولكن يمكن الرد على ليلى بأن شيطان سقراط إنما هو العناية الإلهية نفسها تخاطب نفس الفيلسوف وضميره، ثم شخص هو هذا الصوت الباطني كي يقربه إلى أذهان تلاميذه
نعم لا شك أن بعض العناصر التي تدخل في العبقرية تدخل أيضاً في الجنون، فالمخيلة الفياضة مثلاً إذا اعتَبَرت تخييلاتها وهذيانها وأحلامها حقائق واقعة كانت هي الحماقة نفسيها، فهناك في الواقع صلة بين العبقرية والجنون، وهذه الصلة ترجع إلى الدور الذي تلعبه الحساسية الشديدة التهيج والمخيلة المتقدة المشبوبة في العبقرية إذا لم يسيطر عليهما العقل. فمن السهل إذن أن تختلط معالم العبقرية بالجنون إذا غفا العقل وغفل عن القيام بمهمته في الرقابة، ولكن من السهل أيضاً التمييز بين الجنون والعبقرية؛ ففي الناحية الأولى تسيطر العناصر السفلي: المخيلة والإحساس، بينما ترجع في الناحية الأخرى السيطرة إلى الملكات العليا السامية: العقل والإرادة