للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

انظروا إلى الرجل الإنكليزي الذي هو نتيجة التاريخ الحاضر: إنه لا يثق بثلاثة أرباع الأرض التي تملكها دولته، كما يثق بقدر أنملة في باطنه. فالأرض كلها وهي تدور على محورها، وتتقلب بالتاريخ أجيالاً ودولاً، ليست في عين الإنكليزي أكبر من قلبه الذي يخفق بين جبينه، والأرض لا تحفظ له فضيلة، ولكن فضيلته تحفظ له الأرض.

كل إنكليزي قد يراه الناس مصبوباً من معادن بلاده حتى الفحم الأسود. ولكنه يرى نفسه إنكليزياً، ولا يبالي ما وراء ذلك. ترونه كالحديد المصمت لا ينبعث له صدى، لأنه للعمل والحمل والثبات والاستمرار. وإذا كان الشرقي حديداً أيضاً. . . فهو كالجرس سواء كان في الأعلى أم في الأسفل، ليس إلا أن يهتز ويصيح بالأصوات الرنانة من جوفه الفارغ. . . يعمل الواحد منا عملاً ضئيلاً، أو عملاً لا قيمة له، فيملأ الدنيا كلاماً، ويملأ ما ضِفَيْه فخراً، ويملأ رأسه بهذا النوع الذي يسمونه جنون العظمة. وما ذلك من جهلنا لقيمة كل عمل، ولكن من عجزنا عن أكثر الأعمال النافعة، ومن مجازفتنا بالأوصاف رياءً ومجاملة. وقد ذكر الرواد الذين ضربوا في مجاهل الأرض أنهم رأوا قبيلة من قبائل الزنوج كان أجمل وسام تسطع عليه الشمس في صدر ملكها علبة فارغة من علب السردين!

هي علبة من علب السردين الفارغة التي يطرحها أفقر الناس في الطرقات، وهي قطعة من الصفيح قد لا تكون لها قيمة، ولكن ذلك لا يمنعها أن تكون وساماً في صدر الملك الزنجي، ومتى قلنا (الملك الزنجي) فكأننا قلنا (الزنجي) فقط، لأن أوصاف المتوحشين متوحشة أيضاً، فلفظ الزنجي يأكل لفظ الملك، وكذلك أوصاف الضعفاء، وكذلك أعمال الشرقيين.

لا تظنوا أني أنتقص الشرق وأهله وتاريخه. كلا، ولكني أصف عيوباً لا يجعلها من المحاسن أنها عيوبنا. ولو سئل أفضل رجل شرقي عن أحسن فضيلة فيه، لقال إنها شرقية. ولو سئل أرذل رجل شرقي عن أقبح رذيلة فيه، لقال أيضاً إنها شرقية. فهذا الشرق الذي هو مهد التاريخ، هو كذلك مهد الأديان ومبعث الفضائل. لكن أهله قد أضاعوا أنفسهم وأضاعوه. فإذا رأوا الفضيلة قالوا غربية، وإذا رأوا الرذيلة، قالوا شرقية، وأحالوا بكل ذنب على الشرق، كأن الأرض تنبت الرجال، وتهيئ لهم العمل، وتوحي إليهم المخترعات! وكأننا نريد أن تكون هذه الأرض مثلنا في التقليد. فالبحر يهز أمواجه، ويجب على الأرض أن تهز أهلها ليتخبطوا على ساحل الحياة.

<<  <  ج:
ص:  >  >>