فقالوا إن يوم جنازة ابن تيميه كان يوماً مشهوداً لم تر مثله دمشق في تاريخها، إلا أن يكون ذلك في أيام بني أمية حينما كانت قلب العالم المتمدين.
ولما أريد الصلاة عليه بجامع أمية خفت الجماعات إليه حتى امتلأت الرحبات والصحن وجيء بالجند لحراسة النعش؛ ولما صُلي عليه صاح صائح يقول:(هكذا تكون جنائز أهل السنة!) وخرجت جنازته من باب الجامع إلى مقابر الصوفية مارة بباب الفراديس وباب النصر وباب الجابية والقوم حولها خاشعون.
من هذا الشيخ الذي ارتجت له الشام بأسرها ونعته مآذن مصر، وأقيمت له كبرى جنائز أهل السنة بدمشق، ورفعته الجماعات إلى مصاف الأبطال برغم كونه سجين السلطة الحاكمة؟ ومن الذي ألقى الناس المناديل والعمائم على نعشه؟ ومن كانت تخشاه الدولة في الشام ومصر، ثم مات وعلى رأسه عمامة بيضاء بعذبات مغروزة وقد علا بعض رأسه الشيب؟
من هذا الذي فاضت روحه وقد تمتمت شفتاه بالآية الكريمة:(إن المتقين في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر) فكانت نهاية ثمانين ختمه لكتاب الله بدأها عند دخوله المعتقل، وبدأ الحادية والثمانين فأسلم الروح وهو يتلو هذه الآية الكريمة؟
لاشك في أنه من أولئك الذين بذلوا أنفسهم في سبيل الله، والدعوة إلى الله، والعمل بما أمر به الله - هو صاحب دعوة قام بها مخلصاً وجهه لله وحده، له مذهبه وآراؤه. ولسنا نعرض لها فإن ما كتب فيها كثير، ولله الحمد، وهو متداول ومعروف، ولكنا نعرض لهذه الشخصية الإنسانية الفذة التي جمعت من الصفات والمزايا ما يضعها في مصاف عظماء الرجال من كل عصر
كان ابن تيميه شخصية فيها من الإيمان والقوة والإخلاص والجرأة والصلابة في الحق ما يجعله عالماً وحده. كان ابن تيميه صاحب رسالة من أولئك الذين بعثوا لينشروا بين الناس تعاليم وأفكاراً ومبادئ تهدم القديم الرث البالي، وتصور لهم المتناقضات السائدة في أوساطهم وتدعوهم إلى كلمة سواء، ثم ترسم لهم قيماً جديدة أخذها الشيخ من كتاب الله وسنة رسوله وهديه والعودة إلى السلف الصالح الذي كانت ترتجف لعزائمه الدنيا. واتخذ له نبراساً لا يحيد عنه هو تصفية العقيدة وتوجيهها إلى التوحيد والخضوع للذات السرمدية