للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وإذا كانت السيطرة للتقليد في توجيه جماعة من الجماعات، وفي عملها العقلي، لا يتحدث المؤرخ النفسي للجماعة عن أرادتها أو عن عدم أرادتها، بل عن دفع وانسياق في اتجاه معين محدود

نعم إن محمد عبدة كان له تلاميذ من الأزهريين، وله منهم ألان عدد غير قليل - وان اختلفوا في الإيمان بفكرته درجات - ومع ذلك لم يعرف محمد عبدة من الأزهريين تمام المعرفة حتى يرددوا فكرته ويخلدوا في نفوسهم ذكراه؛ لان اللحظة التي يعرف فيها محمد عبده هي اللحظة التي يتم فيها تحويل الجامع الأزهر إلى جامعة؛ وهي اللحظة التي ترتفع فيها قيمة الفكر الفلسفي لدى الأزهريين أنفسهم في البحوث العلمية وفي التفكير الأزهري

ولهذا ليس من العجيب أن لا يكون الذي فكر في إرسال بعوث أزهرية إلى أوربا باسم محمد عبده من الأزهريين. فعبد السلام الشاذلي باشا هو الذي فكر في تخليد ذكرى محمد عبده، وهو الذي أرسل باسم محمد عبده بعثة من الأزهر إلى أوربا على نفقة مجلس مديرية البحيرة، وهو الذي عمل على ربط ما للشرق الإسلامي من ثقافة عقلية وتاريخية بما للغرب من إنتاج عقلي منذ العصر الذي طرح فيه سلطة التقليد وهو عصر النهضة. وهو من أجل هذا قد ساهم في تكوين عنصر من المثقفين داخل البيئة المصرية يجمع بين ما للعنصر الشرقي المحض وما للعنصر المدني الآخر من مزايا؛ يضم إلى تراثه الشرقي الماضي ما يتلاءم من نتاج الغربيين.

و (ليس من العجيب كذلك ألا يكون الأزهر معنياً بتاريخ محمد عبده وأفكار محمد عبده). لأن الأزهر إنما يعني بتاريخ محمد عبده وأفكار محمد عبده إذا تمت معرفته لمحمد عبده.

وليس تمام معرفته بسرد تاريخه أو التحدث عن أفكاره، وإنما يكون أولاً بتهيئة العقلية الأزهرية لقبول محمد عبده وأمثال محمد عبده، وذلك بإبراز مزايا التفكير الفلسفي وسط البيئة الأزهرية، فإذا اتضحت هذه المزايا لدى العقل الأزهري عرف محمد عبده من نفسه؛ لأن إنتاج محمد عبده أكثر شبهاً بإنتاج ديكارت. كل منهما قصد إلى التوجيه أكثر من محاولة الابتكار في الفكرة والرأي. فمحمد عبده نادى بالا يكون للتقليد سلطان على التفكير في حياتنا العقلية؛ وديكارت أقام منهجه في البحث على إبعاد السلطات التي كانت تهيمن في وقته وقبل وقته على التفكير الأوربي وهي كلها مظاهر لشيء واحد، هو التقليد

<<  <  ج:
ص:  >  >>