الجامعي المدرس لا يعاب عليه أن يجهل المجتمع الذي يعيش فيه، ما دام يعرف الدقائق من العلم الذي انقطع إليه. وقد رأيت من أساتذة السوربون من يجهلون زمانهم بعض الجهل، أو كل الجهل، لأنهم تخصصوا في دراسات سبقت زمانهم بأجيال.
أما الجامعي المفكر فله أسلوب غير هذا الأسلوب. الجامعي المفكر يتخذ من الدراسات الجامعية موازين يزن بها ما في المجتمع من أحلام وأوهام، وحقائق وأباطيل. الجامعي المفكر يرى جميع العلوم وسائل لا غايات، فالغاية الصحيحة عند الجامعي المفكر هي أن ينقل المجتمع من حال إلى أحوال في مذاهب الفكر والمعاش. الغاية عنده هي الإبداع لا التحصيل، الغاية عنده أن تكون آراؤه موضوعات الدرس في الجامعات، لا أن يكون شارحاً لآراء الناس. ومن اجل هذا اختلف المحصول الذي يصدر عن الجامعي المفكر والمحصول الذي يصدر عن الجامعي المدرس، فالأول يبدع والثاني يشرح، وهما في منزلة سواء في نظر العدل، لأن الغرض الأصيل هو خدمة الحق بأي أسلوب وفي أي موضوع.
ومن آفات الحياة في مصر أن يتوهم أهلها أن الفكرة الجامعية لا تتمثل إلا في الجامعي المدرس، وكان ذلك لأن مصر طال عهدها باحترام الوظيفة الرسمية، فلم تعد تدرك أي قيمة للوظيفة الروحية
وقد انساق الجامعيون هذا المساق، فلم نسمع أن فيهم من يحمل راية الجامعة، وهو غير مدرس بالجامعة، فكانت النتيجة أن يحبس صوت الجامعة في حدائق الأورمان، وأن تشعر الحواضر والأقاليم بأن الجامعة صورة من صنع الخيال
والحق أن الجامعة أرادت لأبنائها ما لم يريدوا لأنفسهم، هي أرادت أن يكونوا مفكرين، وهم أرادوا أن يكونوا موظفين، وبين الإرادتين فرق بعيد
ومن أجل هذه الأسباب ضاعت محاولاتي في خلق الموسم الثقافي لخريجي الجامعة المصرية، وهو موسم دعوت إليه منذ أعوام ولم أجد من يستجيب، إلى أن لاحت فرصة لا يجود بها الزمان، إلا في أندر الأحيان
فما تلك الفرصة الذهبية؟
رأيت جماعة من خريجي الجامعة يتشكون على صفحات الجرائد من قلة الرواتب،