علاقات العرب بالترك منذ اتحدا في ظل الهلال العثماني خلال القرون الوسطى، يوم كان للوازع الديني المقام الأول، وكان الشرق يعيش في عزلة تامة عن الغرب، ويدور في دائرة ضيقة من التقاليد والأساليب، تسللت إليه من أسلافه الأولين، وأجداده الأقدمين؛ فكل من يستعرض هذه العلاقات بين الأمتين المسلمتين، يسلم بأن العرب لم يجدوا غضاضة في الخضوع لسلطان العثمانيين حينما فرق يوم مرج دابق جيش السلطان (طومان باي خليفة الغوري) آخر المماليك المصريين، وتقدم إلى دمشق، فالقدس، فالقاهرة فاتحاً، فقد رحبوا به في كل بلد من بلدانهم، وقطر من أقطارهم، وبلغ من شريف مكة يومئذ وهو الأمير بركات أن أرسل إلى القاهرة من حمل إلى السلطان المنتصر كتاب بيعته ودخوله في طاعته، وبهذا الاعتراف اكتسب لقب خادم الحرمين الشريفين. والتعليل الصحيح لهذه الظاهرة الاجتماعية هو الفكرة الدينية ولاشك، فقد سرى في ذهن العرب من أبناء هذه الأقطار أن في تأييد السلطان الجديد تأييداً للإسلام وإعلاء لشأن الشريعة السمحاء فبايعوه سيداً وإماماً
وهبت على ديار الغرب بعد الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر ريح القومية، وتنشق العالم نسمات روح جديدة، حاملة معها حضارة الغرب الحديثة؛ وكانت بضاعة القومية في جملة صادرات الغرب الجديدة إلى الشرق القديم، فجاءت تجر ثوباً قشيباً فضفاضاً يغري ويفتن؛ إلا أن تأثيرها ظل محدوداً خلال القرن الماضي بسبب الجهل الذي كان مسيطراً وسائداً. حتى إذا بدت طلائع القرن الجديد شرع العرب ينتعشون تدريجاً، ويفتحون عيونهم لاستقبال نور الحياة المشرقة عليهم، المهيبة بهم إلى النهضة والعمل، لاحتلال المنزلة اللائقة بين الأمم. بدأت هذه الروح القومية الجديدة تهب عليهم نسمات خفيفة رقيقة، ثم أخذت تتابع وتقوى بتقدم الأيام والليالي، حتى كانت الحرب العظمى الماضية فإذا بتلك النسمات الرقيقة قد أصبحت ريحاً صرصراً عاتية، بل عاصفة هوجاء تتلاعب بالأمة العربية، وتقذف بها ذات اليمين وذات الشمال.
وما زال العرب اليوم يعيشون في وسط هذه العاصفة، وفي ملتقى التيارات المنصبة عليهم من كل صوب وناحية فإذا نحن تقصينا الأثر البارز للقوى العظيمة المتفاعلة وإياهم وجدناه في هذه الهبة القومية التي تدفعهم إلى استكشاف نفسهم، وتحرير أفرادهم ومجموعهم، واستعادة سالف مجدهم، وإثبات مكانتهم في المجتمع البشري. وما من أحد يلمس الحياة