العربية الحاضرة إلا ويشعر بهذه الهبة المرتفعة من صدور العرب في شتى أقطارهم، المبشرة بنهضة جديدة، يرجى لها ما كان لسابقتها في العصور الوسطى - من عز منيع، ومجد رفيع، ومساهمة ذات شأن في تقدم التمدن الإنساني، والحضارة العالمية
وكما هبت ريح القومية على العرب، كذلك هبت على الترك حتى أن بعضهم تشبع بفكرة القومية الطورانية، فكان ذلك مقدمة تحول عظيم في صلات الأمتين: العربية والتركية، وقد ختم هذا الدور (٢٣ يوليو عام ١٩٠٨ - ٣٠ أكتوبر عام ١٩١٨) بانفصالهما عن بعض بعدما عاشا متحدين مدى أربعة قرون، يخضعان لنظام واحد، ولعلم واحد؛ فانهار بذلك الانفصال بناء الإمبراطورية العثمانية، وقام مقامه صرح جمهورية أنقرة الجديدة، كما قامت هذه الدول العربية المنبثة في بلاد العرب من أقصى الجنوب حتى أقصى الشمال
أما الخلاف العنصري الذي نشأ بين العرب والترك، فمقدمته كانت - ولاشك - قضية إبعاد العرب عن وظائف الدولة؛ وقد بلغ اشده عن طريق الصحافة، إذ كانت الصحف التركية الجديدة تدعو إلى تعزيز القومية الطورانية، والتحامل على القوميات الأخرى، وتحض الحكومة على مقاومتها والقضاء عليها. ولم تقصر صحافتا الترك والعرب في التراشق بالألفاظ والجمل، والغمز واللمز، كما لم يقصر شعراء الأمتين في نظم القصائد والمقطوعات التي تزكي نيران القومية في القلوب.
أضف إلى ذلك عمل الكتاب العرب الذين نزحوا إلى وادي النيل السعيد، فقد أذكوا روح القومية العربية بما كتبوا ونظموا، فكان عملهم أشبه بعمل روسو وفولتير ومنتسكيو وديدرو في إذكاء ثورة فرنسا الكبرى سنة ١٧٨٩
تلك هي إذن مقدمات الثورة العربية وأسبابها البعيدة، أضف إليها عمل الجمعيات العربية بصورة خاصة. أما الأسباب القريبة أو المباشرة لها، فهي تصرفات جمال السفاح ومظالمه التي ريعت لها دنيا العرب، وجزعت، فعجلت في إضرام ثورة لا تبقي ولا تذر، حتى قبل أن تعد معداتها وتهيئ أسبابها، بل وقبل أن يأتي أوانها؛ مما أثر في تطورها وحال بين العرب وبين اجتناء الثمرات التي كانوا يرجون اجتناءها في ختام جهادهم الأكبر، كما كانت سبباً في تنفير الرأي العام المتمدن من الاتحاديين الترك واحتقاره لحكومتهم
وكيف لا يجزع العالم العربي لتلك المظالم التي أقدم عليها جمال السفاح، وتلك الفظائع التي