للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

بأشربه، أو كدرا فلا أقربه، والسلام.

وكان البديع ذا همة عالية، ومروءة عظيمة، يعطف على الناس ويرثى لهم، ويصغي لأصحاب الحاجات، ويشفع فيهم. وقد مر بعض ذلك. ومما يدل على نبالة نفسه وسمو همته ما كتبه حين هنأه بعض الناس بمرض الخوارزمي، وما يظهر في رثائه الخوارزمي من حزن صادق.

ويؤخذ من رسائله أنه كان جوادا: كتب إليه صديق يؤذنه بقدومه إليه ويسأله أن يستأجر له داراً فأبى إلا أن ينزله معه في داره، وكتب إلى صديق له مات أبوه فحذره من أن يقتر على نفسه ويحرم نفسه المتعة بماله كما حذره أن ينفقه في اللهو واللعب. ومن رسالته إلى الأمير أبي الحارث محمد مولى أمير المؤمنين: (وأما الدرهم والدينار فدفعهما ونزعهما من يدي سواء. لا أشكر واهبهما ولا أشكو سالبهما. إن لي في القناعة وقتا وفي الصناعة بختا)

يشهد لهذا ما أرسله إلى أبيه من المال وما أرسله إلى أقاربه وأصدقائه من الهدايا.

وبديع الزمان على حسن معاشرته، وحلوة حديثه، وما ينزع إليه من الفكاهة في كتابه، كان في طبعه الانقباض، والنفرة من الناس والتشاؤم، يظهر هذا حين يصف الزمان أو يرثى الموتى أو يهجو رجال عصره من القضاة والكتاب، وأصحاب الأعمال. وحسبك من رسالته التي أجاب بها شيخه أبن فارس حين كتب إليه يذم الزمان: (نعم أطال الله بقاء الشيخ الأمام، أنه الحما المسنون، وإن ظنت الظنون. وأن الناس ينسبون لآدم. وإن كان العهد قد تقادم، وارتبكت الأضداد، واختلط الميلاد، والشيخ الأمام يقول: فسد الزمان أفلا يقول متى كان صالحاً؟ إلى أن يقول: وما فسد الناس، وإنما أطرد القياس، ولا أظلمت الأيام، وإنما امتد الظلام. وهل يفسد الشيء إلا عن صلاح، ويمسي المرء إلا عن صباح؟)

ويقول في الديوان:

كذاك الناس خداع ... إلى جانب خداع

يعيثون مع الذئب ... ويبكون مع الراعي

ولعل من هذا المزاج المنقبض كانت شدته في الهجاء، وإفحاشه في الذم أحياناً، وميله إلى العرلة، ولذلك كان أحسن شعره ونثره ما كتب في الرثاء أو التعزية أو الوعظ.

ويؤخذ من رسائله أنه كان عزوفاً عن اللهو، يعاف الخمر، ويتجنب المحرمات. وفي

<<  <  ج:
ص:  >  >>