وإنه لعلى حق فيما نهج لنفسه، لأن طريقة التأليف التي تقوم على سرد الحوادث وإيراد الوقائع وبخاصة إذا كان ذلك قد صار من علم الناس أصبحت من الأمور التي تبعث الضيق إلى الصدر والسأم إلى النفس، ولو أن الأستاذ العقاد كان قد اتبع سنن من قبله الذين يتزيدون من نقل الحوادث بغية الجمع، ويتوسعون بتدوين الوقائع ابتغاء الحشد، فإنه لا يكون قد أربى عليهم بشيء ولا تكون المكتبة العربية قد غنمت منه إلا زيادة كتاب فيها!
كان الناس لا يعلمون بما درسوا من كتب السيرة كل ما يجب أن يعرف عن عظمة هذا الرجل الذي كان (ممتازاً بعمله ممتازاً بتكوينه، وكان وفاء شرط الامتياز والتفرد في عرف الأقدمين والمحدثين من المؤمنين بدينه وغير المؤمنين)
ولئن كان المؤرخون قد أطالوا في سرد تاريخه وأكثروا من بيان أعماله فإنهم لم يصلوا إلى دراسة حقيقة هذه النفس الكبيرة، ولا عرفوا كيف يتغلغلون إلى آفاقها الواسعة ومراميها البعيدة، وهذا لعمرك هو الفارق بين الكتاب الذي لا يرعف قلمه إلا مداداً يسيل على الصحف سطوراً سوداء وبين الكاتب الملهم الذي ينبثق من قلمه نور يشق الحجب لينفذ إلى ما وراءها، ويمزق الغلف ليصل إلى خفاياها
إن أظهر صفة لعمر قد أشاد التاريخ بها وحفظها له رائعة جليلة هي صفة (العدل)، وعلى أنك ترى أصحاب السير قد ملئوا بطون الأسفار من الأنباء التي تثبت هذه الصفة وتدل عليها، فإنك لا تجد أحداً منهم قد هدى إلى إظهار حقيقة هذا العدل العمري، ولا استطاع أن يصل إلى كنه أسبابه حتى يعلم الناس كيف امتاز عدل عمر من عدل غيره فبلغ به ما لم يبلغ سواه من الثناء والإعجاب ما دام يجري على وجه الأرض حكم، ولكنك لو رجعت إلى كتاب (عبقرية عمر) لوجدته قد وقفك على مرد هذا العدل وكشف لك عن أسبابه فيقول: (إن له روافد شتى بعضها من وراثة أهله، وبعضها من تكوين شخصه، وبعضها من عبر أيامه، وبعضها من تعليم دينه، وكلها بعد ذلك تمضي في اتجاه قويم إلى غاية واحدة لا تنم على افتراق). ولا يدعك على هذا الإجمال بل يفصل لك القول عن هذه الروافد حتى تصير وملء نفسك الإعجاب والرضا
ولا يكتفي بدرس هذه الصفة بل يمضي في استقصاء دراسة سائر خلائقه وصفاته فيقول:
(إن خلائقه الكبرى كانت بارزة جداً لا يسترها حجاب؛ فما من قارئ ألم بفذلكة صالحة من