للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وكنت أعرف أن في جوف ذلك القفر مقاماً لولي من أولياء الله، شاده هنالك جماعة من مريديه، وأقاموا إلى جانبه مسجداً، فأخذت تتناثر من حوله القبور: قبور أولئك الذين يوصون بأن يدفنوا بمقربة من ولي الله زلفى إلى الآخرة. وكنت أعلم أن لذلك المسجد حارساً يضيء فيه، إذا جن الليل، مصباحاً يهتدي به في ذلك القفر من تدهمهم مثل تلك الليلة الليلاء

رميت بصري في جوانب ذلك القفر، وقد ضللنا طريقنا، وأخذت الجياد تضرب بنا في نواحيه ضرب المتخبط المذهول، أتطلع لعلي أقع على شعاع ذلك الولي الكريم. وأنّا للبصر أن يهتدي في تلك الظلمات الهابطة علينا كسفاً؟

ولكن الصمت الذي لزمناه قد انتهى أجله؛ فقد تحرك لسان كبيرنا بكلمات وسمعته يقول إنه يرى ومض مصباح إلى الشمال منا. إذن فألي الشمال

وانتحينا بجيادنا نحو الشمال، وحثثناها على المسير. ولكن أين الوميض؟ لقد أخفناه الليل أو عصف به عاصف من الريح. وخيل إلي أن ذلك الوميض الذي لاح لكبيرنا ليس إلا سراب الليل، أو إنه الوهم ضخمه الأمل في النجاة من الليل والماء والرياح. وثبت نظري نحو الشمال وحدقت تحديقاً تراءت معه لناظري أشباح غريبة، وطيوف تبدو وتخبو كأنها في صراع، وشعرت أني أميل وأترنح من فوق جوادي، وأن يداً خفية تأخذ بأطراف معطفي وتجذبني إلى الوراء، فأعتدل في سرجي وأتثبت من ركابي لأستوثق من محلي، وأني على ظهر الجواد، وما زلت مالكا حواسي. غير أن كل هذه الخيالات قد تبددت فجأة لما أن وقع بصري على لمع ذلك القبس الخافت المريض الذي تراءى لصاحبي من قبل، ثم اختفى في جوف ذلك البحر اللجي من الليل ومن الماء ومن الرياح. وكنا كلما ضربت بنا الجياد في جوف ذلك القفر الأملس المجرود، توالت ومضات ذلك القبس الذي علقنا عليه الأمل، وربطنا حياتنا بتراوحه بين الظهور والخفاء. حتى إذا كنا بمقربة منه عرفنا إنه مصباح وليّ الله يتلاعب به الريح العاصف فيتنوح رواحاً وجيئة، وقد علا جوانبه سواد كاد يخفي عن الأبصار ومضاته الضئيلة.

بلغنا عتبة المسجد القائم هنالك في فجوة من فجوات ذلك القضاء المترامي وحيداً كأنه الأمل الباسم العريض في وحشة الفراق. وكنت أول الواثبين إلى الباب أعالج اقتحامه إلى

<<  <  ج:
ص:  >  >>