والآن، وقد أصاب العربية الفصحى ما أصابها، وأدركها الركود، فباعد بينها وبين أن تفي بحاجات الحياة في العصر الحاضر، أو تفي بمطالب العلوم والفنون في تقدمها المطرد، فلا سبيل لإحيائها إلا بانتهاج نهج علمي غير الذي سار عليه المتأخرون من أبناء العربية إلى اليوم. وهو إن يكن في مجموعه جديداً بالنسبة لنا، فقد سبقتنا إليه أمم الغرب وبعض أمم الشرق، فجدت طلائع علمائهم في دراسة لغاتهم، وعكف نفر منهم على دراسة لغتنا على أساس من العلم صحيح. وكان أن وفقوا إلى استنباط علوم جديدة يستكملون بها علوم العربية؛ فافردوا لكل من اللهجات والأصوات والدلالات اللفظية والمفردات وتشكل الكلمات والأساليب علوماً قائمة برأسها، ثم ربطوا هذه العلوم بعضها ببعض. والتزموا فوق هذا وذاك دراسة جميع اللغات الشرقية وغيرها مما له بالعربية صلة، وذلك توطئة لدراسة النحو المقارن للغات السامية، وتوصلاً إلى معرفة اصل الكلمات ونسبها. وفي ذلك كله تيسير لمعرفة التطور التاريخي لمعاني الكلمات، وتذليل لمعرفة التطور العام للغة. وما كان لهؤلاء الآجلة من العلماء ليتجشموا كل ذلك الذي وجب علينا أن نتجشمه، إلا ابتغاء الكشف عن أسرار العربية والتشبع بروح هذه اللغة الشريفة. ولكن قد لا يتهيأ لنا ولهم الاستفادة من هذه العلوم، استفادة ترضي الوجه الصحيح من البحث العلمي، حتى يخرج لنا المحققون ثمين ما صنفه الأقدمون في علوم اللغة، وفي سائر العلوم التي لها بالعربية صلة، وذلك من عالم المخطوطات إلى عالم المطبوعات، على أن تكون طبعات علمية صحيحة
ومن ذلك كله يتضح لنا إن هذا النهج رغم وفرته لا مفر من انتهاجه. وإنه وإن يكن نهجاً وعر المسالك كثير الشعب، إلا أنه كفيل بأحياء العربية والمد في عمرها ابد الآبدين. فإذا ما صحت عزيمتنا على السير فيه أدينا للعربية أجل خدمة ترتجي لها في وقفتها هذه. ولاشك أن حب اللغة، ذلك الحب الذي يفضل به الإنسان الحيوان، سوف ييسر لنا هذه المهمة الشاقة فيدفعنا إلى تحقيقها دفعاً في عزيمة صادقة ثابتة، وبنفس راضية مطمئنة. وحين يعمل علماؤنا على أداء هذه الرسالة يتبارون ضمناً في إشعال جذوة الثقافة بين أبناء العربية، ويساهمون فوراً في تفجر نهضة صحيحة. وقد ثبت أن لا قيام لنهضة فكرية ما لم تبدأ بإنهاض اللغة
وقد أدرك القدامى من أهل التحقيق ذلك، إذ قالوا: لا تعمر عراص الدين والعلم والأدب إلا