آخرون من أهل النظر، وأكثرهم من المعتزلة، على أن اصل اللغة إنما هو تواضع واصطلاح، وجرهم هذا الخلاف في الرأي إلى النظر في أمر وضع اللغة وأوليتها ومنشئها. وسلكوا في ذلك مذاهب؛ فالتزمت فئة منهم التحقيق العلمي لا تميل عنه في أبحاثها، واستسلمت فئة أخرى إلى ظنون تعوزها الأدلة، فراحت تستجدي من الدين المعونة. وكان كلما اتسع الخلاف في الرأي على هذه المسائل، كان الاقتراب من الحقيقة أدنى. وكان هذا اقرب للوقوع كلما أحيطت حرية الرأي بسياج من الضمان يكفل ازدهارها. ثم صار ذلك الضمان دستوراً نافذ المفعول للدولة الإسلامية أبان سؤددها. وبقيت حرية الفكر قائمة، مدعمة من الجميع، مكفولة للجميع، فأينعت علوم الدين وعلوم الدنيا. وكانت علوم اللغة إذ ذاك مشاعة بين هذه وتلك. فعلماء الدين يعتبرونها من نصيبهم، إذ هي دعامة تفهم الديانة. وعلماء الدنيا يعدونها حقاً من حقوقهم، إذ هي مفتاح سائر العلوم. وهكذا فازت اللغة بما لم تحظ به بقية العلوم، إذ ارتشفت عصارة فكر الفريقين جميعاً
إلا أن هذا التهافت على خدمة اللغة اصبح لا وجود له، بعد أن فشا استبداد الرأي في الحكم والعلم، وضاق النطاق على حرية القول والفكر. فكان ذلك إيذاناً بانتهاء العصر الذهبي للغة العربية. وما كان ذلك ليقع إلا ويختفي بوقوعه أعمال رهط من جهابذة علماء اللغة. فحيل بينها وبين الظهور أعماراً عديدة، أو هي اندثرت إلى غير بعث أو نشر. ومن ثم ضاع الكثير من الدرر الغوالي التي ازدانت بها مصنفات اللغة في العصور الإسلامية المتقدمة، كما ضاع غيرها للعصر الجاهلي. ولا عجب وقد تمثل لنا بعض ما أصاب لغتنا، أن يتفق الرأي، عند أهل التحقيق من أصحاب علم العربية، على أن الذي انتهى إلينا من كلام العرب هو الأقل. وما كان هذا الحال ليقعد علماء العربية عن واجبهم، أو ليدفعهم إلى شيء من التفريط في أمانتهم التي تشرفوا بحملها. فظهر منهم في العصور المتأخرة عدد من المجتهدين أرادوا بعلوم اللغة خيراً، فعمدوا إلى ما ورثه لنا أسلافنا الأول يريدون تنميته وتعزيزه. ولكنهم أبوا أن يسايروا الزمن فيما تطورت إليه العلوم، وما استنبط من طرائق ووسائل للقيام بأبحاث علمية، اهتدى إليها المفكرون في الأمم النابهة، فأصابهم ما أعجزهم عن متابعة السير، وبقيت علوم اللغة حيث كانت.