هذه الأحاديث، وما يدعوني إلى تسجيلها إلا الخوف من أن تضيغ
شعر حافظ السياسي يبتدئ في سنة ١٩٠٤، وشعر شوقي السياسي يبتدئ في سنة ١٨٩٤، وقد انتهيا معاً في سنة ١٩٣٢ عليهما أطيب الرحمات!
فكيف صار شوقي وحده شاعر القصر؟ وكيف اكتفى حافظ بأن يكون شاعر الشعب؟
يرجع السبب إلى أن شوقي كان مفطوراً على حاسة سميتها منذ سنين (حاسة المعاش) وهي حاسة ورثها عن أبويه، وكان لهما بالقصر اتصال، وشوقي نفسه قال كلاماً يؤيد هذا المعنى في مقدمة الطبعة الأولى من الشوقيات، وهي مقدمة تجاهلها شوقي فيها بعد، وتمنى أن تضيع من ذاكرة التاريخ، ولكن هيهات!
كانت في عيني شوقي علة شعرية هي النظر دائماً إلى السماء، علة تمنعه من أن يرى ما بين يديه، ثم اتفق أن زارت جدته الخديو إسماعيل وهو معها، وكان طفلاً رائع الجمال، فسألها الخديو عن أحوال ذلك الطفل الجميل، فقالت بتحسر وتوجع: أن في عينيه آفة تمنعه من رؤية الأرض؛ فنثر الخديو بدرة من النقود الذهبية على البساط، فاعتدلت عينا الطفل وأقبل على الذهب يجمعه بشراهة نادرة المثال!
قال إسماعيل: هذا دواء هاتين العينين العليلتين!
فأجابت الجدة: ولكنه دواء لا يوجد إلا في صيدلية إسماعيل!
وعرف أهل الطفل دواء عينيه فكانوا ينثرون ما يملكون من النقود لينظر إلى الأرض، عساه يستريح من إدمان النظر إلى السماء
وشب الطفل وصار له حمار يمتطيه في العصريات، يوم كان القاهريون يغنون:
(أحب مشي العصاري لاجل ما أشوفك)
وكانت (دار شوقي) في تلك الأيام تقري من (دار الرسالة) في هذه الأيام، ولم يكن له بد من عبور ميدان عابدين وهو على صهوة حماره في نزهة الأصيل
وغلبت شوقي علة عينيه فنظر إلى فوق، فلمح الخديو توفيق في إحدى الشرفات، فنزل عن حماره وعبر الميدان على قدميه. وراع الخديو أن يرى شاباً يراعي هذا المعنى، فقرر أن يدعوه إليه بلا تسويف، ليبشره بوظيفة في ديوان المعية
لا يعرف أحد كيف كان شوقي في لك الوقت، ولكني أعرف كيف رأيته بعد نحو ثلاثين