تتفانى الدول وتبقى الأرض، كما يتفانى الأسود وتبقى الفريسة
والخاسرون في معركة الحياة هم عبيد الطمع من الأفراد والأمم. يبذلون دماءهم في سبيل الحياة لا لينعموا بها، ولكن ليحافظوا عليها. وهم مادة الغذاء في يد الطبيعة: ترعاهم ليأمنوا، وتدر عليهم ليسمنوا؛ فإذا ما تكاثروا وامتلئوا قدمتهم إلى الحياة العامة فكانوا سماد الزرع ليخصب، وقلامة الشجر ليغلظ!
كان الشأن في الحرب القديمة أن يخرس اللسان والقلم إذا نطق السيف والرمح. وكانت نيرانها المحصورة لا يصلاها إلا المتحاربون، رجلاً لرجل، أو فئة لفئة؛ ولكن هذه الحرب الجديدة في خططها وعددها، جندت كل قوة وأوعدت كل حياة: جندت العلم والأدب والفن والصحافة والإذاعة والتمثيل والسينما، وعبأت الزراع والصناع والتجار والمدنيين والعسكريين والمحايدين والمحاربين والأطفال والشيوخ، فلم تدع أحداً في العالم كله يفكر إلا فيها، ولا يشغل إلا بها، ولا يعمل إلا لها، ولا يألم إلا منها؛ فكأنها أصبحت المحرك الأول لآلة العيش، استولت عليه الشياطين فأنتجوا به من أداة الشر ما لم يقع في سماع التاريخ ولم يخطر ببال الناس ليهلكوا ما ادخرته القرون، ويهدموا ما شاده الله!
لذلك نما وطما كل ما يمت إلى هذه الحرب بسبب من الإنتاج المادي والفكري، وذبل وضؤل منهما مالا يحارب ولا يدعوا. والأدب في الحرب القديمة كان تشجيعاً، ولكنه في هذه الحرب أصبح دعاية. وقد نفق هذا النوع من الأدب نفوقاً عجيباً في كل أمه، لأن الحكومات على اختلافها وائتلافها تتملقه وتتعهده وتنفق عليه. والأدب كالحرب عصبة المال: بفضله يخصب ويزدهر، وبحوله يتسع وينتشر. أما الأدب الذي لا يحارب ولا يدعو، فقد ظل كالشعب المحايد، يعاني الحرمان ولا يد له فيه، ويقاسي الغلاء ولا ربح له منه
والصحافة الأدبية من هذا النوع، ألحّ عليها فحش الغلاء وحرمان العوز حتى نحل بدنها وشحب لونها، وكادت تنبت من فرط الضنى في وسط الطريق
أصبحت لا تجد الورق إذا وجدت المال، ولا تملك زيادة العرض إذا ملكت زيادة الطلب، ولا تضمن بقاء الغد إذا اطمأنت على بقاء اليوم. فإذا قدر الله لها أن تخرج من محنة هذه الحرب وفيها حشاشة نفس، كانت حرية بعد ذلك أن تستهين بكل صعب، وتثبت على كل