شخصيته وجعلته يعرف حقوقه وواجباته، بل وذهبت إلى أبعد من هذا فحققت المساواة بين أفراد البشر جميعاً. وقديماً كانت المدنيات القديمة تعمل على تحقيق المساواة بين أفرادها الخاضعين لها: أي أن المدنية اليونانية مثلاً تنظر بعين المساواة إلى اليونان فقط، أما غيرهم من الشعوب الأجنبية فهي تلفظها وتحتقرها وتبعدها عن ميدانها. تحققت إذن المساواة بين أفراد الدولة في الداخل، فالكل سواء أمام القانون، لا عبد هناك ولا سيد، ولا فرق بين الصغير والكبير أو الغني والفقير أو المواطن ورئيس الدولة، فالكل متساوون أمام القانون. وهي لم تقتصر على تحقيق المساواة فقط، بل عملت على تحقيق الحرية لبني الإنسان، فألغت الرق وحررت العبيد، وقد كان الرق شيئاً عادياً طبيعياً تقول وتأخذ به المدنيات القديمة. ونحن نعجب كيف أن عقولاً جبارة كعقول سقراط وأفلاطون وأرسطو كانت توافق على استخدام فرد لفرد آخر، وإخضاع هذا الفرد لاستغلال فرد آخر يكبره من حيث الثروة أو الجنس أو المولد
بل وتعدت المدنية الحاضرة حدود الفرد وذهبت إلى ميدان الشعوب فعملت على رفع الظلم عن كاهله. حررت الشعب وضمنت له حقوقه وحددت له واجباته بهذه النظم الديمقراطية التي تعتبر أرقى ما وصل إليه العقل البشري من تصور لتنظيم الجماعة وحكمها فقضت على النظم الطاغية، نظم الظلم والاستعباد؛ فقد كان الفرد فيما مضى يخشى السلطان، وكان السلطان إذا تكلم كان هذا الكلام قانوناً مقدساً وإرادة لا نقض لها. كانت سلطة السلطان مطلقة مستبدة، ورغبته هي النافذة، وإرادته هي القانون والقانون هو إرادته. فجاءت المدنية الحاضرة وقضت على هذا كله، وأصبحت الهيئة الحاكمة تعترف بأنها تحكم لا لتستبد بل لتخدم الشعب ولتقوم على مصالحه. وقد سرت هذه المبادئ الحديثة بين الأمم سريان الكهرباء وانتشرت انتشار الهواء، لما عرف القوم من مزايا هذه الديمقراطية التي ترتكز على المبادئ الشعبية الخالدة، وهي التي تقدس الحقوق والحريات العامة. فالديمقراطية أثر من آثار هذه المدنية، وهي التي جعلت الإنسان يشعر بشخصيته ويحافظ على حقوقه، ويقوم بواجباته بدافع من نفسه. ولهذه الديمقراطية مزايا ومنافع، فهي التي تعمل على تساوي الحظوظ بين أفراد المجتمع فلا تقصر الفوائد كنشر الثقافة والتعليم على طبقة دون طبقة. إنما الجميع في نظرها سواء، لكل فرد الحق في أن يتعلم، ولكل فرد