وللمدنية الحاضرة فضل آخر هو الخاص بتحرير المرأة من عقالها، إذ جعلتها تشعر بأنها عضو نافع من أعضاء المجتمع، فقد سوت بين المرأة والرجل، وقضت على هوة الخلاف بين النوعين وأصبح للمرأة ما للرجل من حقوق وعليها ما عليه من واجبات، وأشعرت المرأة أنها تستطيع أن تعطي رأيها في المسائل، وأن تشارك الرجل في إدارة شؤون بيته وأعماله، بل وتعاونه معاونة تامة سواء أكان ذلك في الحياة الخاصة أو الحياة العامة. وهي التي أعطتها هذا الغذاء العقلي غذاء العلم والثقافة، فأصبحت تتعلم في المدارس على قدم المساواة مع النوع الآخر، وبذلك أصبحت تحس بأنها تعيش حقاً، تهنأ لسعادة المجموع وتبأس لشقائه
وقد يقول بعض المكارين إن هذا صحيح، ولكن أنظر إلى هذا الاستعمار الأوربي وليد الحضارة الحالية، ألم يعتد هذا الاستعمار على مصير الشعوب وحريات الأمم؟ وقد يكون هذا صحيحاً إذا كان الاستعمار ظهر في عهد هذه المدنية ولم يظهر في عهد غيرها من المدنيات الأخرى؛ فالاستعمار عرفه قدماء المصريين واليونان والرومان وكذلك العرب، فهو يرجع إلى طبيعة الإنسان لا إلى طبيعة المدنية، والإنسان بطبعه تواق إلى التحكم والسيطرة، فإذا وجد أمامه إنساناً ضعيفاً فرض عليه سلطانه وسيادته، وكذلك الدولة الضعيفة، وهذا من طبيعة الناموس البشري، فلا بد للضعيف من أن يخضع للقوي، ولا بد للقوي من أن يسود الضعيف؛ فللقوي البقاء، وللضعيف الفناء
وقد يقول هذا النفر أيضاً: أنظر إلى هذه الحرب التي تفتك بالناس فتكاً ذريعاً، والتي تأتي على اليابس فتأكله، وعلى العامر فتخربه؛ وانظر إلى هذه المخترعات الفتاكة، وهذه القنابل التي لا تفرق بين المحارب وغير المحارب؛ وانظر إلى هذه الوحشية التي تتطاير من أبراج الطائرات، أفبعد هذا تقول إنه خير لنا أن نؤيد المدنية الحاضرة وهي التي أنتجت كل هذه الأشياء الفتاكة؟ أما عن الحرب فإنها قد وجدت في كل زمان وفي كل مكان. والحرب لا تتصف بالوداعة ولا الهدوء، وإنما تصحبها الوحشية؛ فالمحارب يبغي من الحرب القضاء على قوة خصمه بأي وسيلة، سواء أكانت هذه الوسيلة مشروعة أم غير مشروعة. ففي كل حرب وقعت كانت الجيوش لا ترتدع عن إتيان كل أعمال الوحشية