للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

على أنه لم يكن يخاصم إلا في الله والوطن والحق. ولم تعرف له في حياته خصومة شخصية، لأنه كان ينظر إلى زخارف هذه الدنيا بعين الزهد والاحتقار. ولقد حاول الكثيرون أن يشتروا قلمه أو يخففوا من حدته بالكثير من المال والجاه فلم يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً. وعرضت عليه وظائف الدولة الكبرى، فكان جوابه: (لا تفسدوا عليّ إيماني؛ فأنا لم أخلق لهذه الوظائف!) وكان نعم العون للمرحوم سعد باشا زغلول؛ وكان سعد يؤثره برسائله وهو مع الوفد في باريس ويبدأ كتبه إليه بقوله: أخي أمين!. . .

وحينما اختلف معه في مبدأ المفاوضات، كان سعد مع ذلك يثق به ويلقبه بالخصم الشريف، والرجل النزيه. وكان يستعير منه الوثائق الخاصة بتسجيل أعمال الوزارات. ولما نفي إلى سيشل كان أمين أول المدافعين عنه مع اختلافه معه في الرأي، كما كان أول من نقد طريقة وضع الدستور. وفي ذلك يقول سعد باشا: إن أميناً كأنما يستمليني ما يكتبه. . . ومن مفاخر أمين التي تدل على التضحية والشجاعة أنه في سنة ١٩١٤ حينما أعلنت إنجلترا الحماية على مصر وقضت الأحكام العرفية على الصحف بنشر البلاغات الرسمية ومنها بلاغ الحماية، لم يشأ أمين أن ينشر في جريدة الشعب - الذي كان يتولى تحريرها في ذلك الحين - بلاغ الحماية، وقرر تعطيلها من تلقاء نفسه لكيلا ينشر فيها هذا البلاغ، ورضى بما ترتب على ذلك من السجن والاعتقال؛ وقضى مدة السجن صابراً راضياً وخرج منه مؤمناً قوي النفس والقلب. ونستطيع أن ندرك مبلغ التضحية إذا عرفنا أن جريدة الشعب كانت كل شيء في البلد لأنها كانت جريدة الحركة الوطنية، وكان الشعب يتلقف أعدادها بشوق وشغف. ثم تستطيع أن تؤمن بالرجولة الكاملة حين تعرف أن أمين الرافعي كان الرجل الوحيد الذي احتج على بلاغ الحماية البريطانية بعدم نشره!!

ومن أعظم الأمثلة الدالة على عبقريته وسعة علمه بالشؤون الدستورية - أنه الصحفي الوحيد الذي نبه الأمة والزعماء والأحزاب إلى أن قرار حل مجلس النواب يعتبر باطلاً لأنه لم يحدد فيه موعد الانتخاب والتاريخ الذي يجتمع فيه المجلس. وما دام البرلمان لم يدع فإن من حقه أن يستأنف وجوده؛ لأن قرار الحل يعتبر ملغي. وأخذ الزعماء بهذا الرأي واجتمع البرلمان في فندق الكونتنيتال في يوم السبت الثالث من نوفمبر سنة ١٩٢٥ واتحدت الأمة والأحزاب، وعادت الحياة النيابية إلى البلاد، وانتفع الجميع بفضل هذا

<<  <  ج:
ص:  >  >>