للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وكان صاحبي هذا بحكم هذا المزاج الخاص معقدا شديد التعقيد متعباً لنفسه ولأصحابه وأصدقائه جميعاً، وكان كثيراً ما يسأل نفسه عما يريد فلا يجد لهذا السؤال جواباً. وكان أصدقاؤه يسألونه عما يريد فلا يجدون لهذا السؤال جواباً. فقبلوه على علاته، وقبلوه على ما في صحبته من مشقة وتعقيد. وكانت حياته وحياة أصحابه هينة لينة مستقيمة تمضي في طريق لا عوج فيها ولا التواء، كما كانت حياة الناس كلهم في بعض أوقات الأمن والدعة والهدوء، فكان راضيا عن أصحابه، وكان أصحابه راضين عنه. وكان ما يعرض له ولهم من مصاعب الحياة ومشكلاتها لا يزيد على ان يكشفها لهم فيحببه إليهم، ويكشفهم له فيحببهم إليه. ولكن هدوء الحياة ودعتها واضطراد الامن فيها واستقامة الطرق لسالكيها ليست أمور محتومة مقضية للناس أو مقضية عليهم، قد اخذوا بها عهدا على الظروف والأيام. وإنما هي أمور ممكنة تتاح حينا وتمتنع أسحياناً، تتاح فيسعد الناس، وتمتنع فيشقى الناس. تتاح فيجهل بعض الناس بعضا، ويحب بعض الناس بعضا، ويطمئن الناس إلى بعض، لان ظروف الحياة لا تكرههم على ان يدفق بعضهم في امتحان بعض، ويحقق بعضهم في ابتلاء بعض. ثم تمتنع فإذا الناس يتعارفون، ولا يلبثون ان يتعارفوا حتى يتناكروا ويتدابروا. ويقوم الشك منهم مقام اليقين، ويقوم الحذر منهم مقام الاطمئنان، وتقوم التفرق منهم مقام الصراحة، ويقوم البغض منهم مقام الحب، وإذا هم يندمون على جهلهم القديم، وإذا هم يحزنون على اطمئنانهم لماضي، وإذا هم يتمنون لو رد الله عليهم تلك الأيام الحلوة التي كانوا يستمتعون فيها بلذة الجهل وحلاوة الغفلة ونعيم الثقة، واعفاهم من هذه الأيام التي يشقون فيها بألم المعرفة ومرارة الفطنة وبؤس الشك.

وكان صاحبي قد فتح لنفسه الأبواب كلها على مصاريعها كلها ليتلقى كل شئ من كل شئ ومن كل إنسان. ثم ليسعد بهذه التصفية والتنقية، وبهذا التمحيص والتحقيق، وبتخير الثمرات من كل ما كان يجتمع له من الجد والردى فلما نكرت الأيام لم يغلق من أبواب نفسه بابا، وإنما نظر فإذا النفوس تغلق من دونه نفسا فنفسا، وإذا أبوابها تغلق من دونه بابا فبابا. إذا ما كان يجتمع له من الملاحظات شيئا فشيئا، ويندر حتى كاد لا يصبح شيئا. وإذا ما بقى من هذه النفوس القليلة التي ثبتت للمحن، وامتنعت على الخطوب، وابت ان تلين قناتها للأحداث، قد اخذ يغشاها من حين إلى حين لون رقيق جدا من الحياء، ثم من الغلو

<<  <  ج:
ص:  >  >>