في الحياء، ثم من الإشفاق، ثم من الاسراف في الإشفاق، ثم يتكاثف اللون ويتكاثف، وتضاف طبقات منه إلى طبقات حتى يصبح احتياطيا وحذرا، وحتى يستحيل إلى حجاب كثيف صفيق لا تنفذ من دونه نفس إلى نفس، ولا ينتهي من دونه قلب إلى قلب، ولا يتحدث من دونه ضمير إلى ضمير، وإذا صاحبي يلقى أصحابه فلا يلقى منهم إلا وجوها، ويصافح أصحابه فلا يصافح منهم إلا أيدياً، ويحدث أصحابه فلا يكون بينه وبينهم إلا حركات الألسنة في الأفواه، وخروج الألفاظ من الشفاه، وانتهاء الأصوات إلى الآذان، ثم وقوفها دون هذه الأبواب التي قد غلقت تغليقا، وهذه الأستار التي قد اسدلت اسدالا، على انه أيضاً لم يكن اقل من أصحابه واحبائه تغليقا لأبواب نفسه، والقاء للحجب والأستار بينه وبينهم، فقد آذاه ما رأى منهم كما آذاهم ما رأوا منه، فكان هذا الحياء الذي كان منهم، ثم اخذ هذا الحياء يتعقد في نفسه كما كان يتعقد في نفوسهم حتى اصبح إشفاقا ثم شكا ثم احتياطا وحذرا. ولكن حياء صاحبي لم يكن كحياء أصدقائه، كانوا يستحون منه وكان يستحي لهم، كانوا يشفقون منه وكان يشفق عليهم. كان يحذرون منه وكان يحذر عليهم، ولكنه الحياء والإشفاق والحذر على كل حال. ولكنه تغليق الأبواب والقاء الأستار والحجب على كل حال. ولكنه انقطاع الأسباب وفساد الصلات على كل حال. ولكنه العزلة بين قوم لم يكونوا يستطيعون ان يعتزل بعضهم بعضا، والفرقة بين قوم لم يكونوا يستطيعوا ان ينعموا بالفراق، ولكنه الرياء بين قوم لم يكونوا يحتملون الرياء، ولكنه هذا الألم الممض الذي ينشأ عن الفراق والناس مجتموعون، وعن البعد والناس متقاربون، وعن القطيعة والناس متواصلون. ولكنه العذاب الذي يجده الناس حين يتحدثون بألسنتهم لا بقلوبهم، وحين يسمعون بآذانهم لا بنفوسهم، وحين تتصافح أيديهم وتتباعد بين ضمائرهم ونياتهم الآماد، إلا من ألف منهم هذه الحياة واطمأن إليها ووجد فيها مثل ما كان في تلك الحياة من اللذة والراحة والنعيم لأنه فارق أصدقاء فوجد مكانهم أصدقاء آخرين، ونأى عن أحباء فاستقر في أحباء آخرين. هنالك نظر صاحبي إلى نفسه، فإذا هو قد اصبح أداة من الأدوات تسعى مع النهار وتعود مع الليل، تلقى الناس فتتحدث إليهم وتسمع منهم دون ان تعقل ما يصدر عنها أو تذوق ما يصدر إليها من حديث. أداة تذهب وتجئ تتلقى آثاراً من أدوات مثلها، وتحدث آثاراً في أدوات مثلها، ولكنها آثار ظاهرة آلية لا قوام لها ولا لذة فيها ولا