للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

اتحدث به اليك الان ايها القارئ العزيز. ثم انقضت الاسابيع والاشهر، وإذا انا اتلقى صباح اليوم منه هذه الاسطر التي دفعتني إلى كتابة هذه الفصل. واحسب اني لن اجيبه إلا بارسال هذا العدد من الرسالة إليه. فقد عرفت عنوانه الان. كتب الي يقول: كتابي اليك ايها الصديق من بلد ناء فررت إليه بنفسي وضميري من بلد تفسد فيه الضمائر والنفوس، واثرت ان احيا فيه فردا مع نفسي على ان احيا عندكم حياة الأدوات لا حياة الناس، ولقد كنت اظن اني فارقتكم إلى غير رجعة، ورحلت عنكم إلى غير عودة. وسئمت حياتكم سأما لأحد له، وكرهتها كرها لا اعرف له قراراً، وعجزت عن احتمال أيسر اثقالها. واعترف باني سعدت بهذه الهجرة سعادة خصبة حقا، واستكشفت فيها نفسي، نعمت بهذا الاستكشاف، وانست فيها إلى ضميري، واستمتعت بهذا الانس، ولكني لم البث في هذا البلد شهرا أو شهرين، حتى احسست ان نفسي لا تكفيني، وحتى ضقت باطالة النظر في المرآة، حتى ذكرت الأصدقاء فنفرت من ذكر الأصدقاء، وفزعت منهم إلى الكتب حينا، إلى مناظر هذه الطبيعة الرائعة حينا اخر، وما زلت ايها الصديق مطمئنا إلى هذا المعقل الذي آويت إليه، واعتصمت به ولكن انظر! ها أنذا اكتب اليك، وما كتبت اليك إلا لاني فكرت فيك، وما فكرت فيك إلا لان نفسي نازعتني إلى حديثك، وإذن فقد ابت حياتي تلك إلا ان تتبعني في هجرتي وتقتحم علي هذا المعقل الذي لجأت إليه، وكل ما اتمناه إلا تغلبني على نفسي، ولا تخرجني من معقلي، وان تكتفي بزيارتي والإلمام بي من حين إلى حين. فأكتب إلى واطل فقد يظهر ان الحياة التي ترتفع ارتفاعا خالصا عن كل ما نكره من النقائص شئ لا سبيل إليه، وأما انا فقد جربت الضيق بالحياة في مصر والفرار منها، وانا زعيم لكم ايها الأصدقاء بان صاحبكم سيعود اليكم متى انقضى الصيف ومن يدري، لعل الحياة ان تكون قد عادت إلى شئ من الامن والدعة والهدوء، فتتفتح الأبواب، وترفع الحجب والأستار، لا نحتاج فيما بيننا إلى اصطناع الرياء، أو إلى اصطناع المجاملة. ثم لا يستحي بعضنا من بعض، ولا يستحي بعضنا لبعض.

طه حسين

<<  <  ج:
ص:  >  >>