فالقرآن الكريم يشير بهذا إلى أن السحر كان قد انتشر في تلك المدينة حتى عم ضرره كل الناس، وتفاهم خطبه بينهم، وصار أربابه هم الآمرين الناهين فيهم، لأنهم أوهموهم أن لهم قوة غيبية وراء الأسباب التي ربط الله بها المسببات في هذه الدنيا، فهم يفعلون ما يوهمون الناس أنه فوق استعداد البشر، وفوق ما منحوا من القوى والقدر، وأنهم يستعينون عليه بالشياطين وأرواح الكواكب، إلى غير ذلك من ضلالالتهم وكفرياتهم، فأرسل الله هاروت وماروت يعلمانهم حقيقة السحر، ويبينان لهم أن السحر بشر مثلهم لا قدرة لهم على النفع والضر، وأن السحر إما حيلة وشعوذة لا أصل لها، وإما صناعة علمية خفية يعرفها بعض الناس، وبهذا يكون علماً يؤخذ بالتعليم ويتكرر بالعمل، وفي استطاعة كثير من الناس أن يتعلمه ويفعل ما يفعله أربابه، ولا يرجع كما يزعمون إلى قوة غيبية فيهم، ولا أثر فيه لتأثير الشياطين وأرواح الكواكب، وهو مع هذا ليس من العلوم التي يليق بذوي الأخلاق الكريمة الاشتغال بها، لأنه من العلوم التي تضر ولا تنفع، ولا يشتغل به إلا كل دجال أو مشعوذ.
الحضارة الحميرية
وينسب الحميريون إلى حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب ابن قحطان، وكان لهم ملك عريق باليمن، وحضارة يشهد بفضلها ما بقي من آثارها. ومن أشهر دولهم فيه دولة سبأ، وكانت دولة تجارية خلفت دولة مَعين في نقل التجارة بين الهند والحبشة والعراق والشام ومصر، وقد زهت حضارة اليمنيين في عهد هذه الدولة، وعظم غناؤها وثراؤها، لأنها كانت تعني بشق الأنهار وبناء السدود التي تحفظ المياه بين الجبال، لتصرفها على الأرض بقدر، ولا تذهب سدى في الفلوات والبحار، فعمرت بذلك بلاد اليمن أعظم عمارة، وامتلأت نواحيها بالزروع والحدائق وناطحت قصورها وحصونها السحب
وقد نوه القرآن الكريم بحضارة سبأ أعظم تنويه، وجعلها لعظمها وفخامتها آية من آيات الله، فقال تعالى في الآيات: - ١٥، ١٦، ١٧، ١٨، ١٩ - من سورة سبأ (لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال، كلوا من رزق ربكم واشكروا له، بلدة طيبة ورب غفور، فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل. ذلك جزيناهم بما كفروا؛ وهل نجازي إلا الكفور. وجعلنا بينهم وبين