القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين، فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق؛ إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور)
وقد ذكر المفسرون من عظمة تلك الجنات أن المرأة كانت تحمل مكتلها على رأسها وتمر بها، فيمتلئ المكتل من أنواع الفواكه من غير أن تمس بيدها شيئاً. وذكروا من طيب تلك البلدة أنه لم يكن يرى فيها بعوض ولا ذباب ولا برغوث ولا حية ولا عقرب، وأن الرجل كان يمر بها وفي ثيابه القمل فيموت من طيب الهواء. وذكروا أن تلك القرى الظاهرة كانت تتواصل من اليمن إلى الشام، فإذا سافروا فيها لمتاجرهم يبيتون بقرية ويقيلون بأخرى، وكلما وصلوا إلى قرية وجدوا فيها المياه والزروع والأشجار، فلا يحتاجون إلى حمل زاد من سبأ إلى الشام. والقرآن الكريم يشير بهذا إلى أن عظمة هذه الدولة كانت قائمة على أساس التجارة ونقلها بين تلك البلاد، كما يشير بقوله:(باعد بين أسفارنا) إلى أن زوال عظمتها كان بسبب انتقال زمام هذه التجارة من أيدي أبنائها، وكل هذا يتفق مع ما وصل إليه علماء التاريخ في عصرنا، وهم لم يصلوا إليه إلا بعد الكد والتعب في كشف ما تركته هذه الدولة من آثار، وفي محاولة قراءة ما دون فيها من حوادث وأخبار، وكم للقرآن من أمثال هذه المعجزات العليمة!
وكان سبب انتقال التجارة من أيدي أبناء هذه الدولة تحول طريقها من البر إلى البحر، فأحدث ذلك أثراً كبيراً فيها، وجعلها تعجز عن حفظ تلك السدود وتهمل شأنها، وكانت خاتمتها بانهيار ذلك السد العظيم، سد مأرب الذي أشار إليه القرآن الكريم.