للتعبير عن ذلك المنظر. كذلك يعجز النقش عن أن يساوي الشعر في قوة تعبيره وعمق تصويره، فهناك آثار شعرية عظيمة نعجب بها كل الإعجاب، وتثير فينا العاطفة الجمالية كأقوى ما تكون، ولكن النقش - أو غيره - يعجز عن تصويرها في مثل روعة تصوير الشعر لها. فمثلاً صور لنا فرجيل في قصيدته (صورة رمزية لمسخ عظيم هائل، له مائة عين ومائة فم؛ تمس قدماه الأرض، ويبلغ رأسه عنان السماء) فأبدع في تصويره كل الإبداع، وأثار إعجاب كل من قرأها. هذه الصورة الرمزية ماذا تثير فينا لو فرض أن حاول المنقش أن يحققها ويعبر عنها؟ وأغلب الظن أنه سيخرجها لنا صورة غريبة تثير فينا الضحك وتبعث على الهزؤ والسخرية.
وقد أجمعت الآراء على القول بأن الشعر هو أرقى الفنون الجميلة، فهو يحتل المكان الأول بين سلسلة الفنون لأنه أقواها على إلهاب النفس، وتحرير المخيلة، والصعود بالإنسان إلى أرقى الأفكار وأسماها. ولا يكتفي الشعر بالتعبير عن الصور الحسية وعن العواطف الجياشة وتصويرها كما تفعل سائر الفنون الأخرى، بل يمتاز عنها بميزة أخرى هي، أنه يمكن أن يعبر عن المعاني المجردة، مثل فكرة (الله) وفكرة (الوطن) وغيرها مما يعجز عنه باقي الفنون، وذلك لأن أداة الشعر الكلام، ويمكن أن يؤدي الإنسان بالكلام ما لا يؤديه بغيره. فكلمة (الله) أو (الوطن) وحدها تحمل من المعاني، وتثير من العواطف والانفعالات والخواطر ما يقصر عن حمله وإثارته أي أداة أخرى من أدوات التعبير في الفن
ويأخذ (هجل) على الشعر أنه لا يعرض علينا كل الخطوط والملامح الجمالية المختلفة التي يصفها بحيث نرها كلها لأول وهلة بعضها بجانب بعض مثلما نرى في النقش مثلاً، إذ يكفي أن ننظر إلى لوحة من اللوحات فنرى كل الملاح المعبر عنها دفعة واحدة. فالشعر يعرض علينا الشيء الذي يصوره شيئاً فشيئاً على دفعات، وهذا ناتج من طبيعة أداة الكلام. ففي كل بيت مثلاً يعرض علينا جزءاً من تلك الملامح، ولا تكمل الصورة إلا بكمال القصيدة. فهو من هذه الناحية إذن أقل منزلة من النقش. ولئن كان هذا عيباً في الشعر فإنه من جهة أخرى ميزة يمتاز بها على غيره، وذلك حين يعرض لبعض المشاهد التي لابد فيها من التسلسل والتتابع حتى تستكمل ظهورها. فالنقش في الحقيقة يمثل حالة معينة وفي وقت بالذات ولا يمكن أن يعرض للحالات التي تتغير وتتابع. فمثلاً يمكن للشعر أن