يعرض لوصف عاصفة هوجاء عنيفة فيصور أولاً منظر البحر قبل العاصفة وقد هدأت المياه وصفا الجو وسطعت الشمس، وقد أخذت سفينة صغيرة تتهادى في رفق على صفحة الماء، ثم إذا بالجو يتلبد بالغيوم فجأة وتهيج الأمواج وتضطرب وتصفر الرياح وتتقاذف السفينة حتى تغلبها على أمرها وتدفع بها إلى صخرة عظيمة فتنفتح في جانب السفينة ثغرة كبيرة تدخل منها المياه، وتأخذ السفينة في الغوص والركاب يصرخون ويجرون هنا وهناك وقد تملكهم اليأس والفزع، ثم طغى البحر على السفينة فابتعلها بمن عليها. كل ذلك يصوره لنا الشعر بسهولة في قصيدة واحدة ولكن يعجز عنه النقش في لوحة واحدة، فهو لا يمكنه إلا أن يعبر عن حالة واحدة فقط من تلك الحالات المتباينة
وهناك فن آخر لا يقل عن الشعر رفعة وسمواً وهو الموسيقى فهي من أقوى الفنون تأثيراً في النفوس وإيقاظاً للعواطف وإلهاباً للوجدان، ويمكنها أن تحمل الروح وتتجاوز بها العالم الواقعي إلى اللانهاية. فعنصر اللانهاية واضح جداً فيها، ولعلها في ذلك تسبق الشعر، وقد كادت تفوقه لولا ما فيها من غموض وإبهام؛ فتعبيراتها غير محددة تمام التحديد، كما نرى في النحت مثلاً، فهو على العكس منها تماماً يحدد موضوع تعبيره بخطوط واضحة لا يمكن أن تخطئها، مما جعله لا يبعث على الخيال ولا يحمل الروح إلى اللانهاية. فجمال الموسيقى، وميزتها الكبرى تتجلى في قدرتها على العبور بالروح إلى اللانهاية، مما جعل الناس يقرنها بالدين لأنهما يخاطبان القلب والعواطف ويسموان بالروح عن عالم الواقع. ولعل هذا هو السر في أن المسيحيين يصبحون صلواتهم الكنيسية بالموسيقى. وتأثير الموسيقى في الحقيقة أقوى من تأثير الشعر، فهناك صلة وثيقة بين أنغام الموسيقى والقلب، بحيث يمكن للموسيقي البارع أن يلعب بأفئدة الناس كيفما شاء، إن شاء أضحكهم وإن شاء أبكاهم. وعلى العموم فهناك صلة كبيرة بين الشعر والموسيقى. فالشعر يدخل في الموسيقى على صورة غناء، فيحدد من تعبيراتها وتصوراتها، وهو بذلك يقتل ما فيها من لا نهاية. كذلك الشعر موسيقى الألفاظ، يحس الإنسان فيه بأنغام موسيقية غير خافية، قد تتولد الأكثر من تكرار بعض حروف معينة وتلازمها
والخلاصة من كل ما سبق أنه ما دامت حرية التعبير وقوته وعمقه وغناؤه هي أساس ترتيب درجات سمو الفنون ورقيها، فإنه يمكن تبعاً لذلك، اعتبار الشعر أرقى أنواع الفنون