للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

المعتدلة، ولكن البحر يحوطها من ثلاث جهات فأثرت رطوبته في الهواء ولطفت من قيظها المفرط. ثم قال: إن بأخلاق أهل الجنوب خفة وطيشاً، وإنهم لا يعرفون السكينة، ويقضون معظم حياتهم في اللهو والرقص؛ فالحرارة مخلخلة للهواء والبخار زائدة في كميته، وقد اتفق ابن خلدون و (منتسكيو) في أثر البرودة والحرارة في الأجسام، ولكننا لا نرى في هذا العصر أثر لمقاومة البرد والحر، وهناك برهان قاطع على أن نظرية الإقليم كما يشرحها (أرسطو) وأبن خلدون و (مونتسكيو) ليست معصومة من الزلل؛ فابن خلدون يرى أن سكان الشام والعراق هم أكثر الشعوب فوزاً بذلك الامتياز، و (مونتسكيو) يرى المثل الأعلى في أمم الشمال، و (أرسطو) يرى الشعب اليوناني هو الذي بعث ذلك التقدم إلى باقي الشعوب

ثم تكلم ابن خلدون عن الروح البشرية والنبوة والكهانة، وهو لا يعتبر الدين من عوامل الحضارة، ولا يعلق على تأثيره فيها أهمية كبيرة، والواقع غير ذلك؛ فالمجتمعات تتأثر بالدين وله تأثير قوى في النفوس، والدين مادة غزيرة من الفلسفة والتقاليد والمعتقدات. ولقد وفق ابن خلدون بين الفلسفة والدين كما وفق ابن رشد بينهما

ويؤخذ على ابن خلدون في مقدمته إنحاؤه على العرب وقسوته في الحكم عليهم في كثير من سياسة الملك؛ فقد غمطهم حقهم، وشدد النكير عليهم، فنعي عليهم عجزهم عن التغلب إلا على البسائط ويقول: إنهم لا يتغلبون على قطر إلا أصابه الخراب المطلق، فهم يهدمون الصروح، ويغتصبون أملاك المغلوبين مستشهداً بتخريب إفريقية الشمالية في القرن الخامس، وأنهم يجهلون سياسة الملك. والتأريخ وحده أقوم دليل على دحض هذه المفتريات. ويبدو في كلامه هذا التحامل على العرب، وإنه لعربي حضرمي، ولكن ذلك راجع إلى العصبية المغربية؛ فأهل المغرب لهم عواطفهم وتقاليدهم، وهم قد خرجوا من سلطان العرب منذ القرن الثاني للهجرة.

أما تحامله على العرب وعجزهم عن التغلب إلا على البسائط كسهول الشام والعراق ومصر وساحل إفريقية الشمالية فمردود بحوادث التاريخ فقد نسى ابن خلدون أو تناسى أنهم فتحوا فارس واستقروا هناك أكثر من قرنين، وأنهم فتحوا بلاد الأندلس، وأسسوا فيها حضارة وملكاً كبيراً استمر أكثر من ثمانية قرون

<<  <  ج:
ص:  >  >>