فقد بنيت بغداد بأمر الخليفة المنصور، وبنيت الفسطاط والكوفة والبصرة بأمر الخليفة عمر بن الخطاب، وابتنى القائد جوهر مدينة القاهرة تنفيذاً لأمر المعز لدين الله الفاطمي، ولحماية المدينة من الغارات تحاط بالأسوار الطبيعية والصناعية، وتصان صحة السكان بجودة الهواء وغزارة الماء. وقد بين أن العرب لم يحسنوا اختيار مواقع مدنهم لأنهم يعنون بالمراعى، وأنهم يجهلون بأن للهواء صفات يجب اعتبارها؛ لأنهم تعودوا حياة التجوال والانتقال؛ لذلك لم تكن المدن التي أسسها العرب في بدء الإسلام في العراق وأفريقية أهلاً للحضارة الثابتة، وأن تقاوم صروف الزمن، فقد زالت حينما سقطت دولها؛ ولكن هذا الرأي مردود بأن الكوفة والبصرة لا زالتا موجودتين في عهد ابن خلدون. وعنده أن تقدم الحضارة يتوقف على مزايا الأرض ومزايا الحكومة وكثرة السكان، فمن الأرض تستخرج كل المواد الأولية، والحكومة يجب أن تكون قوية عادلة كريمة، وكذلك عمر الحضارة منوط بعمر الدولة لأن سقوطها يفضي إلى سقوط العاصمة، ومن ثم تصاب الحضارة بضربة شديدة؛ ولكن الحكومة الجديدة المتغلبة إذا كانت حازمة قوية استطاعت في الحال أن ترد إلى العاصمة كل رخائها، أما كثرة السكان فتخلق الحضارة، وكلما كثر السكان كثرت المدنية وازداد الغنى واتسع المجال لتحصيل ثمار الترف!
ويرى ابن خلدون أن من أسباب ضعف الدولة انغماسها في الترف وضعف العصبية أو الحزب الذي أنشأها وما ينشأ عن هذا الضعف من مطالب بعض الجنود الأجانب الذين يتخذهم بعض الملوك لحمايتهم. ولا شك أن لفيلسوفنا آراء ومذاهب ونظريات يؤيدها العلم الحديث والعرف، وما نراه في هذا العصر من قيام دولة وسقوط أخرى واختلاف الناس في مذاهب الحياة وفهم الأخلاق. وقد عنيت أن أجلو أمام القارئ بعض هذه الآراء له فرصة الاستيعاب والتمحيص والموازنات الدقيقة. والله ولي التوفيق