لم يبق بدمن توجيه نظرك إلى أشياء خفيت عليك عدداً من السنين، واستوجبت أن أزهد في لقائك، برغم ما بيني وبينك من وداد عجزت عن محوه الأيام. هي أشياء تملني منك، فتصرفني عنك، وتجعل محضرك اثقل من الحديث المعاد
أنت يا صديقي مغرم بالسؤال عما لا يعنيك من شؤون الناس، ولا سيما الموظفين، كأنك تتوهم أن أعمالي تنحصر في استقصاء الدقائق والخفايا من أحوال الزملاء، وكان الحياة عندي وعندك قيل وقال، وبحث وسؤال، مع أنك تعرف جيداً أني لم أسألك يوماً عن شأن من شؤونك، الا أن تتلطف أنت فتستشيرني في بعض المعضلات من أحوال دنياك، ثم تكون النتيجة أن أنسى ما أفضيت به إلي بعد لحظات قصار أو طوال
يجب أن تكون شواغلنا الحقيقية مقصورة على ما ينفع، ولا نفع في استقصاء أحوال الناس، الا في حدود المتصلة بالمعملات، ثم يمضي كل إلى سبيله المرسوم في طلب الرزق أو المجد، بلا التفات إلى الفضول الذي لا يتشهاه غير صغار العقول
ومن أثقل ما يضجرني منك حرصك في كل لقاء على تذكيري بالتقصير في حق نفسي من الوجهة الدنيوية، وأنا أبغض من يبصرني بأمور دنياي، لأني رسمت لحياتي كلها خطة لا أحيد عنها في أي وقت، وهي الظفر بأكبر نصيب من أنصبة الفكر والرأي. وهذا هو السبب في أن تكون أوقاتي كلها مشغولة برياضيات ذهنية وعقلية وروحية، وهو أيضاً السبب في طول الخلوة إلى القلم، بحيث لا يمضي يوم يجوز نعته بالفراغ، ولو كان من أيام الأعياد
والغريب أنك لا تساجلني فيما أكتب، ولا تحاول تنبيهي إلى ما يغيب عني، وإنما تسأل دائماً عما ساجني من الأدب، وتحاول بالتصريح أو التلميح أن تفهمني أن كل شيء ما خلا المال ضياع في ضياع!
وأنا لا ازهد في المال ولا أدعو إلى الزهد فيه، ولكني أفهم أن الغني بالنسبة إلى أهل العلم والأدب غني محدود، وينبغي أن يظل كذلك، لتبقى لأهل العلم والأدب أشواق إلى المعاني، وليتحرروا من أسر الغنى الفضفاض، فله شواغل تحد من وثبات العقول، وسبحات