للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وقد افتن به (لامرتين) ولا ريب! وافتتن بالبحيرات الصغيرة التي يبسطها النهر بين مرجين حين يتهمل - وهي لا تبرح إلى اليوم تنتظر (صاحب البحيرة!) وبدرب النهر ساعة تحدر الفلاحات بالجرار الحمراء في العشايا، ويسلن فوجا غب فوج، فيغدو الدرب نهراً للاحاديث والغبطة يدفق من الضيعة إلى الوادي. . .

أما (أبو الطيب) وهو لم يعرج على الباروك في (وعقاب لبنان وكيف بقطعها) فقد كان حسبنا منه، ان يلتفت في رأس الجبل إلى خيمة الناطور التي تتلاقى عليها عيون القرويين من كل حقل. فيثنى رأس جواده، ويطل من شاهق - وهو الشتاء (٢) - على البساط الأبيض الذي نقيم عليه أيام الثلج في (الباروك)! كذلك كنا في الصبى الاول، نحسب الدنيا تبتدئ. ويخيل الينا ان (لامرتين) كان عندنا أول أمس، وكان (أبو الطيب) أول من امس. وأن خيمة الناطور تلك، وطاحون الوادي، ودرب النهر، معالم ثابتة على الزمن، بذهابها ذهاب الباروك والينابيع والربوات والشجر وهاتيك الدنيا الصغيرة!! فلما كبرنا عن الصبى وكبرت الدنيا وصغرت (الباروك) - وكانت خيمة الناطور قد سقطت وانهد الطاحون، وعفت الدروب على النهر - لم يذهب من القرية شئ! بل ظلت لنا (الباروك) قرية بنهر وجبل وضاحية، كما كان عهدنا بها اول العمر. ذهب النافل من ذلك الجمال الباروكي في غرق الأيام وعتمة السواد، وسلم ما ينبغي له. فلو مر جواد (ابي الطيب) في رأس الجبل لثناه راكبه، وقف يتلفت! ولو نزل (لامرتين) بين البحيرات والدروب لآنس نعيما ظلا واخضراراً.

هكذا نقول لأصحابنا في مشادة العبث بين (القديم والجديد)، فالزمن يمسح النافل، ويبقى على المحتم النافع. وليس في الأدب قديم ولا جديد، بل الأدب كد على الحق، ووله بالجمال. تسقط عتمة الآباد ألف مرة على الصنيع الفني الذي غمس بألوان الوله والكد وهو السالم الباقي لا يأخذ الليل منه حرفا!

فالحسن حسن على كل جيل. والتافه تافه أبداً. ما أخر القدم قيد شبر، ولا قدمت الجدة قلامة ظفر.

ولقد سبقنا إلى الدنيا، وجاءها أناس كلفوا بالجمال والحق. وداروا على اللباب في الدروب. فآنسوا نارا ثم ألفوها ونزلوا رماداً. فكيف يسوغ لنا، ونحن في الدرب من ورائهم، ان

<<  <  ج:
ص:  >  >>