للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أنها الساعة الأخيرة وأنها ستفارقه فراق الأبد فلم تتمالك نفسها وصاحت: (وا حزناه عليك يا مصعب) وما هي إلا ساعات معدودة حتى أتاها خبر استشهاده. فخرجت إلى ساحة الوغى لتنظر البطل المجندل فطلبته بين القتلى وعرفته بشامة كانت في خده فوقفت عليه وقالت: (يرحمك الله، نعم بعل المرأة المسلمة كنت) أدركت والله ما قال عنتر:

وخليل غانية تركت مجندلاً ... بالقاع لم يعهد ولم يتلثم

فهتكت بالرمح الطويل أهابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم

وقفت سكينة طويلاً أمام هذا البطل المضرج بدمائه. وتذكرت أيام نكبتها بشهيد كربلاء، ومر أمامها المناظر المحزنة والمصائب التي توالت على آل البيت. وهاهي تفجع اليوم بزواجها كما فجعت بأهلها من قبل ففاض الدمع من عينها والشعر من قبلها وقالت ترثيه:

فإن تقتلوه تقتلوا الماجد الذي ... يرى القتل إلا ما عليه حراماً

وقبلك ما خض الحسين منية ... إلى القوم حتى أوردوه حماماً

ثم احتسبت واسترجعت، وأمرت بدفن زوجها ثم عادت إلى الكوفة لتلم شعثها وتلحق بأهلها. ولما أرادت السفر تجمع إليها أهل الكوفة ليسلموا عليها، كأنهم لم يسلموا زوجها قبل أيام ولم يسلموا أباها وأخاها قبله، وكأنهم لم يخذلوا جدها. ولكن سكينة من نعرف دهاءها وعقلها فهي أجل من أن تنخدع بظاهر القول. وقد صرحت لهم بما يكنه صدرها من البغض فقالت لهم: (لا جزاكم الله عني خيرا، ولا أخلف عليكم بخير، يعلم الله أني أبغضكم، قتلتم جدي علياً، وقتلتم أبي الحسين، وأخي علياً، وزوجي مصعباً، فبأي وجه تلقوني، أيمتموني صغيرة، وأرملتموني كبيرة.

أراد عبد الملك أن يغتنم فرصة قتل زوجها، وكانت كل منيته أن يتزوجها ليحظى بالجمال والعقل والشرف، ولكن هيهات أن يجد حبه إلى قلبها سبيلاً. ولما عرض عليها أمر خطبتها قالت: (والله لا يتزوجني قاتله أبدا). خطبها الإصبع بن عبد العزيز والى مصر. فكتبت إليه أن أرض مصر وخمة. فبنى لها (مدينة الإصبع) ولكن هذا الأمر لم يرق في عين عبد الملك فحسده وكتب إليه: أن اختر ولاية مصر أو سكينة. فكف عن زواجها. خطبها بعد ذلك زيد بن عثمان بن عفان فشرطت عليه: ألا يغيرها، ولا يمنعها شيئاً تريده، ولا يخالفها في أمر تريده، وأن يكون خروجها بيدها. فرضى وسلم أموره بيدها كما أرادت. ولكن

<<  <  ج:
ص:  >  >>