(وذكرت أبقاك الله أنك جالست أخلاطاً من جند الخلافة، وجماعة من أبناء الدعوة، وشيوخاً من جلة الشيعة، وكهولا من أبناء رجال الدولة والمنسوبين إلى الطاعة والمناصحة الدينية دون محبة الرغبة والرهبة. وأن رجلا من عرض تلك الجماعة ومن حاشية تلك الجملة ارتجل الكلام ارتجال مستبد، وتفرد به تفرد معجب. . . وزعم أن جند الخلافة اليوم على خمسة أقسام: خراساني وتركي ومولى وبنوي. . . وأنك اعترضت على هذا المتكلم المستبد وعلى هذا القائل المتكلف الذي قسم هذه الأقسام وخالف بين هذه الأركان). ويورد الجاحظ عقب هذا بعض ما رد به الفتح على ذلك الخطيب الداعي إلى التفرقة، ويقول له: فزعت أن أنساب الجميع متقاربة غير متباعدة، وعلى حسب ذلك التقارب تكون الموازرة والمكانفة والطاعة والمناصحة والمحبة للخلفاء والأئمة). ثم يشير الجاحظ إلى أن هذا الخطيب ذكر في معرض كلامه جملا من مفاخر هذه الأجناس وجمهرة من مناقبهم، وأنه أطنب في ذلك ما شاء له الإطناب ولكنه (ألغى ذكر الأتراك فلم يعرض لهم، وأضرب عنهم صفحاً فلم يخبر عنهم كما أخبر عن حجة كل جيل وبرهان كل صنف. . .).
ويذكر الجاحظ - على لسان الخطيب أيضاً - مفاخر هذه الأجناس الأربعة سوى الأتراك، فيطنب في مزايا الخراسانيين والعرب والموالى ثم الأبناء. ويتخذ من آمال شأن الأتراك وسيلة إلى الحديث عنهم؛ أي إلى إبراز رسالته الأولى في مناقبهم وهو يسلك إلى ذلك ألطف المسالك فيقول: أن ذهبنا - حفظك الله - بعقب هذه الاحتجاجات، وعند منقطع هذه الاستدلالات، نستعمل المفاوضة بمناقب الأتراك والموازنة بين خصالهم وخصال كل صنف من هذه الأصناف، سلكنا في هذا الكتاب سبيل أهل الخصومات ففي كتبهم، وطريق أصحاب الأهواء في الاختلاف الذي بينهم. وكتابنا هذا إنما تكلفناه لنؤلف بين قلوبهم أن كانت مختلفة، ولنزيد في الألفة أن كانت مؤتلفة، ولنخبر عن اتفاق أسبابهم لتجتمع كلمتهم ولتسلم صدورهم. . .)
ولا يخلص الجاحظ إلى رسالته الأولى في مناقب الترك حتى يعاود التمهيد لها والتمويه عن غرضه السابق مها فيقول:(وهم في معظم الأمر وكبر الشأن وعمود النسب متفقون، فالأتراك خراسانية وموالى الخلفاء فصرة، فقد صار التركي إلى الجميع راجعاً، وصار شرفه إلى شرفهم زائدا)