في اليوم الثالث. ولما مثل في صالونها، سألته: من أشعر الناس؟ قال: أنا. قالت: كذبت. صاحبك أشعر منك حيث يقول:
إن العيون التي في طرفها حَوَر ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله إنسانا
علم الفرزدق بأن شعر جرير قد وقع في قلبها لرقته وسلاسة ألفاظه وخلوه من الفحش والخبث، فهو يمثل النفس الطاهرة الطيبة. عندئذ لجأ الفرزدق إلى التلطف والتوسل، فقال لها:(يا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن لي عليك حقاً عظيماً: خرجت من مكة إرادة السلام عليك فكان جزائي منك تكذيبي ومنعي من أن أسمعك) وعرَّض لها بكلامه أن تهبه جارية وضيئة من جواريها أعجبته. فضحكت سكينة وأمرت له بالجارية. وقالت:(يا فرزدق أحسن صحبتها فإني آثرتك بها)
وأحاديثها مع عروة بن أذينة كثيرة. وهو من فقهاء المدينة ومحدثيها. وقد أخذ عنه الإمام مالك. كان من الأتقياء ولكن قلبه لم يخلص من الهوى. كان يحب وكان يعشق ولكن كان يستر حبه ويكتم هواه - ومهما حاول المرء كتم هواه فلابد أن يظهر يوماً على لسانه
بينما كانت تسبر سكينة بوادي العقيق رأت هذا الشيخ فمالت إليه بموكبها ووقفت عليه وقالت له: يا أبا عامر، أنت الذي تزعم أن لك مروءة وأن غزلك من وراء عفة وأنك تقي؟! قال: نعم. قالت: أفأنت الذي تقول:
قالت وأبثثتها وجدي فبحت به ... قد كنت عندي تحب الستر فاستتر
أَلست تبصر من حولي؟ فقلت لها ... غطى هواك وما أُلقي علي بصري
قال لها: نعم
قالت:(من حولي من الجواري حرائر إن كان هذا خرج من قلب سليم) وكيف يخرج هذا الغزل الرقيق من قلب خال من الهوى وإن لصاحبه من حب الجمال ما جعله يتخذ له قصراً في وسط العقيق عش الأدباء والظرفاء والمجان.
ومن تهكمها: أنها كانت في مأتم فيه بنت لعثمان بن عفان. فقالت بنت عثمان مفتخرة:(أنا بنت الشهيد) فسكتت سكينة فقال المؤذن: (أشهد أن محمداً رسول الله) فالتفتت إلى بنت عثمان وقالت لها: (هذا أبي أم أبوك؟!) فبهتت العثمانية وقالت: (لا أفخر عليكم أبداً)