القصور، والثاني نعتقد أنه من أثار الاتصال بين مظهر التعبير وجوهر الشعور. وعلي طه في تكراره فنان يساير مشاعره ويعجب بفنه؛ وهيهات أن يستطيع الخلاص من قيد عواطفه. وإذا كان في قراراته حبُ لشيء أو معنى فلا أقل من أن ينطلق مردداً له مستطيبا لتكراره. . . ولكنة حين يكررها يبدل في عرض مشاعره ويلبسها ثوباً جديداً تستشف من خلاله اتصالها بوشائج قوية مع أصولها الثابتة في أغوار نفسه. ولعل المسألة تظهر جلية إذا علم القارئ أن أهم صفة في خلق شاعرنا هي الوفاء. . . فما يستغرب إذا منه الوفاء لبعض أحاسيسه. . .! وما تلك الأحاسيس والصور التي يطيب للملاح أن يكررها. . .؟ هي:(الحلم، الأشباح. الزورق. الكأس) نعم إن المتأمل ليهوله كثرة ما ردد شاعرنا العبقري هذه الكلمات. . . ولكننا بقليل من التأمل نقول إن هذه الكلمات وإن اختلفت في الدلالة فقد اتفقت في الباعث الأصيل لها. . . وإليك الدليل. . . إن الانفعال الذي عند تصورك الحلم وانطلاقه هو بلا ريب ما تحسه عند توهمك الشبح وتهاويله. وما يصدق على الأحلام والأشباح يصدق على الكأس وعصيرها. وهل كانت الكأس إلا الوسيلة للانطلاق في جواء سحيرة فسيحة؟ وإن ما يصدق عن الأحلام والأشباح والكأس ليصدق على حيرة الزورق، فإن حيرته لتعطيك رهبة الرياح الهوج والأمواج الرعن. . . هذا وإلى القارئ بعض هذا التكرار الفني الجميل الذي يرتكز على طبيعة حق فقد كرر كلمة الحلم قائلاً:
(حلم مثلته في خاطري)، (يا عروس البحر يا حلم الخيال)، (غرقان في حلم عذب تسلسله) و (أحلام الليالي الكواعب) وتكراره لكلمة الكأس (لو سقى مثواك بالكأس الصبيب)، (هي الكأس مشرقة في يديك)، (هيئ الكأس والوتر). وتكرار لكلمة الزورق (وضمنا فيه زورق يجري)، يسري عليها للملائك زورق)، (نرقب النيل تحت زورقه).
. . . وثمة ناحية أخرى تلمحها خلال ديوانه وهي أن أصدق ما صاغه في حب وطنه كان وهو في غربة عنه؛ وتلك بارقة نفسية عميقة تدلنا على أن الفاقد للشيء هو خير من يقدره. . . أنظر إليه كيف تذكر النيل ومصر وهو على ضفاف (كومو) وفي جلوة الجندول بفينسيا. وبعد فلا يسعنا إلا أن نهتف أن هذا الشاعر المغرم بالأشباح والحيرة والشرود والأحلام والزورق خير مثال لتأثر الشاعر وتقيده بأحاسيسه الأصيلة. . . أفلم يخضع لهذه الحيرة السابحة والأحلام والأشباح فأبى إلا أن يكون ملاحاً تائهاً. . .