ذات نقاب. فوضعت من دونها حجباً واستاراً من اغراب ووحشية ومعاظلة لا تزول إلا بعد استشارة القاموس ولسان العرب ومعاجم اللغة. وقد تجد طلابتك وقد لا تجد. نعم قد لا تجد شرح بعض مفردات (رسالة الغفران) في معاجم اللغة كلها. فحالت الغرابة دون تناولها، بقيت صدفاتها مغلقة على لآلئها، فلم ينتفع بها أحد.
نزعة في أبي العلاء إغرابه والعصر عصر حضارة، وتوعره والزمان زمان رقة نمت في نفسه بنمو مزاجه السوداوي، وتقوت دعائمها بما كان يكاثر به العلماء بعضهم بعضا في عهده من المباهاة بالغريب. ثم صوغه في قالب جذاب ترغيبا في حفظه.
تلك المدرسة التي كان يرفع لواءها الحريري المتوفى سنة ٥١٦ والتي وضع أساسها ابن دريد المتوفي سنة ٣٢١. وابن فارس المتوفي سنة ٣٩٠. والخوارزمي المتوفي سنة ٣٨٣، والبديع الهمذاني المتوفي سنة ٣٩٨، وابن نباتة السعدي المتوفي سنة ٤٠٥. والتي كانت تكلف بالغريب تتلمس أوهى الأسباب لذكره والاكثار منه، كان لها اثر في نفس المعري. فحببت إليه الأغراب والإغماض. وأخرى لعلها حدث به أن يغرب. تلك هي السخرية والدعابة التي يشم منها رائحة التطاول على الدين. فعمد المعري للغريب يتوارى خلفه. ويتخذه مجنا دون من كان يتقى، فأرانا أفانين من الاغراب تعرب عن علمه باللغة بما تقصر دونه الأعناق ولا تكاد تحيط به العقول. ولقد كان يأتي ببعض الغريب ثم يفسره مما نستنبط منه أن شرح المفردات اللغوية كان أحد أغراضه من تدبيج رسالته.
وحسبي أن أضع أمامك بعض نصوصها لتحدثك عن غرابتها، فأول ما ينطق به في رسالته قوله: قد علم الحبر الذي نسب إليه حبريل (بالحاء). وبينا ابن القارح يطوف في روضات الجنة إذا به ينظر خمسة نفر فيقول لهم: ما رأيت احسن من عيونكم! من انتم؟ فيقولون: نحن هوران قيس تميم بن مقبل العجلاني، وعمرو ابن أحمر البأهلي، والشماخ بن ضرار أحد بن ثعلبة، وعبيد بن الحصين النميري، وحميد بن ثور الهلالي. فيحاور الشماخ في شعره، فيقول له الشماخ: إنما كنت أسبق هذه الأمور وانا آمل ان أفقر بها ناقة. أو أعطي كل عيالى سنة. وأنا الآن إن احببت وردا من رسل الأوارى، فرب نهر كأنه دجلة أو الفرات. ولقد أراني في دار الشقوة أجهد أخلاف شياه لجبات لا يمتلئ منهن القعب.