للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وكذلك قوله: وما عمل من أجناس المسكرات. مفوقات للشارب. وموكرات كالجعة والبتع والمزر. والسكركة ذات الوزر. إلى غير ذلك مما امتلأت به رسالة أبي العلاء. فكان حصونا منيعة دون المعنى تحول بينه وبين الافهام. ودونك مثلا من غريب ما ذكره وفسره حين يقول. فأن خرج إلى الحاء فقال: من أم شح جاز أن يقول: وحوارى بمح، وببح، وبرح، وبجح، وبسح. فالح مح البيضة، وبح جمع أبح من قولهم: كسر أبح أي كثير الدسم. ويجوز أن يعني بالمح القداح كما قال السلمى

قروا أضيافهم ربحا ببح ... يعيش بفضلهن الحي سمر

ورح جمع أرح، وهو صفات بقر الوحش. وقد يقال لأظلاف البقرة رح. قال الشاعر الاعشى

ورح بالزمان مردفات ... بها تنضو الوغى وبها ترود

والسح تمر صغير يابس، والجح صغار البطيخ قبل ان ينضج. وسواء لدينا أكان إغرابه معاياة لعلماء اللغة أم خدمة في سبيل إحيائها. أم تلك الأسباب كلها مجتمعة، فقد كان ذلك النسيج دروعا حول المعنى رغبت الناس عنه. فلم تؤثر الرواية في الجماهير. ولعل اكثارها من نقاش النحو واللغة والصرف، صرف قلوب الناس عنها. على حين كان دانتي يتخذ من روايته عظة خليقة خلابة فتهافت الناس عليها منذ تراءت في سماء ايطاليا.

ولعا مما يكبر المعري في أعين النقاد أن نقاش رسالته وهو في غريب اللغة، وعميق النحو والصرف والعروض، وثلة من تلك الابحاث الجافة لم يكن جافا، فقد اضفى عليه عذوبة من روحه جعلته عذبا شائقا. وتلك هي القدرة الفذة التي تجعل المعري في الخالدين.

نفسية الشاعرين

كان المعري ههنا مرحا طربا، فابتدأ بالفردوس، وختم بالفردوس، واطلق لخياله العنان، في السخر والدعابة، يسمر مع الشعراء والأدباء والنحاة. بل مع إبليس، ومع الخزنة، خزنة النيران: يرى المعذب تندلق أقتابه، ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت، فيحاوره في النحو والصرف، وفي الرواية والتصحيف، دون أن تجدي لديه ضراعة المعذبين واعتذارهم عن الاجابة بما هم فيه. ولم يصحب المعري دليلا في رحلته إيناسا لابن القارح، وتعبيداً لسبيلها.

<<  <  ج:
ص:  >  >>