للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ولكن دانتي كان مروع القلب. هلوع الفؤاد. ابتدأ الرحلة بالجحيم فلم يطق لسير في ظلماتها وحيدا. فصحب الشاعر العظيم فرجيل، يؤنسه ويهديه سواء السبيل. بيد ان اصطحابه لم يمنعه أن يشتد به تأثره، حين يرى الجثث تتطاير مع اللهب من اللهب وحين يستمع العصاة وهم يصطرخون فيها داعين بالويل والثبور الوأحد، وبالويل والثبور الكثير.

ولقد أغمي عليه مرات عدة. ففقد وعيه حينما كان يطوف في الطبقة الثانية من جهنم، فرأى العاشقين باولو وفرنشيسكا وهما يتطايران متعانقين في لهب السعير. رأى دانتي تلك المخلوقة الضعيفة تلفح وجهها النيران فأغمي عليه. ولما أفاق قصت عليه قصصها. وأنها كانت هيفاء القوام، مشرقة الطلعة، خطبها (جانشوتو مالاتستا) القصير القامة الدميم الخلقة. فأطمع أهلها ثراؤه. فتغاضوا عن دمامته، وإبان الخطبة أروها أخاه (باولو) الوسيم القسيم، فأحبته وظلت ترقب ليلة الزفاف التي تجلت لها سوداء قاتمة حين رأت زوجا دميما خدعت فيه بأخيه الذي ظلت عرى المحبة بينها وبينه متواصلة. حتى أتاحت لهما الفرصة سفرا من زوجها قريبا فالتمساها وجلسا يقرآن معاقصة قبلة، بلغاها فقلداها فتوشجت بينهما أواصر المحبة، حتى تكشف أمرهما لأحد الخدم، فسعى بهما زوجها فحضر على حين غفلة فرآهما معا مختليين في منأى عن أعين الرقباء، فاستبقا الباب فاتبعهما بسيفه فقضى عليهما عقابا في الدنيا، يتلوه خلودهما في الجحيم.

ولقد كان دانتي يطوف في الطبقة الاولى من الجحيم. فزلزت الارض زلزالها، وانتشر في الجو نور أحمر تكاثف حتى ملأ للآفاق ففقد كل المشاعر والحواس. لولا رعد قاصف دوى في إذنيه فأفاقه وهكذا كان دانتي مضطرب القلب مروعا من رحلته، على حين ان ابن القارح كان طروبا كما حدثتك حتى في أشد المواقف إذابة للصخور الجلامد.

وذلك فرق ما بين الشاعرين: دانتي العابس، والمعري الباسم في رسالة الغفران لا في اللزوميات.

يتبع

محمود احمد النشوي

<<  <  ج:
ص:  >  >>