والقول بهذا هو الحد الفاصل بيننا وبين دعاة الاشتراكية الذين يلغون سلطان الفرد ليثبتوا سلطان المجتمع، ثم يقيمون للمجتمع قانوناً لا فكاك منه ولا محيد عنه، وهو قانون الضرورة المادية أو الضرورة الاقتصادية أو ما يسمونه في الجملة بالتفسير المادي للتاريخ.
ليست الأحوال الاقتصادية بكل شيء
وليس المجتمع بكل شيء
وليس الفرد لغواً إلى جانب المجتمع أو الأحوال الاقتصادية. ولكنه شيء، والمجتمع شيء، والأحوال الاقتصادية شيء، وليس من الضروري اللازم لإدراك حقيقة من الحقائق الاجتماعية أو الفلسفية أن نلغي شيئاً من هذه الأشياء
احسبنا في عهدنا هذا أحوج ما كنا إلى توكيد هذه الحقيقة مرة بعد مرة، لأن توكيدها في الأذهان غير عاصم من ضلال الشعور - بل ضلال الوهم - الذي يتمثل لبعض الناس كأنه مذهب من مذاهب التفكير.
فتغليب الشئون الاقتصادية، أو تغليب الدوافع المادية على دوافع الحياة في الأفراد، هو في الواقع (قدرية) جديدة يلجأ إليها العاجزون في زماننا هرباً من التبعة، كما لجأ العاجزون فيما مضى إلى قدرية القرون الوسطى
كان العاجزون فيما مضى يقولون: ماذا نصنع؟ وما الحيلة؟ هذا قدر مكتوب لا حيلة فيه!
فأصبح العاجزون في زماننا يقولون: ماذا نصنع؟ وما الحيلة؟ هذه ضرورات الاقتصاد التي تسيطر على إرادة الأفراد، فلا لوم عليهم، ولا تقصير من قبلهم، وإنما اللوم لوم المجتمع والتقصير تقصير (الأحوال)
وما كتبنا قط مقالاً عن الفرد والمجتمع إلا أحسسنا بخطر هذه القدرية في أسئلة بعض السائلين، وتعقيب بعض المعقبين، فعلمنا أنه (مهرب) جديد من التبعات الفردية، يلوذ به من يحاول فيفشل فيعز عليه أن يلوم نفسه على فشله، فيذهب به ليلقيه على كاهل المجتمع أو الأحوال الاقتصادية أو التفسير المادي للتاريخ.
أحسسنا بخطر هذه القدرية مرة أخرى على أثر المقال الذي كتبناه عن أسس الإصلاح، والمقال الذي كتبناه عن فلسفة الترجمة، لأننا أثبتنا في كلا المقالين وجود الفرد إلى جانب