وجود الدولة أو المجتمع، وخرجنا منهما بالرأي الذي خلاصته أن الفرد قد يكون قوة فاعلة كما يكون نتيجة منفعلة، وإن الإصلاح الذي يلغي حرية الفرد فساد شر من كل فساد.
كتبنا ذينك المقالين فلم يسترح إليهما أناس ممن استراحوا إلى القدرية الجديدة، لأن إعفاء النفس من اللوم راحة، وإلقاء التبعة كلها على المجتمع راحة، وفيما ذكرناه في المقالين ما يزعج المستنيم إلى تينك الراحتين.
يجب أن نقول إن المجتمع هو كل شيء، وإن الذنب كله هو ذنبه، ليستريح المؤمنون بالقدرية الجديدة
ولكننا لا نقول ذلك، وليس لنا أن نقوله. . . بل نحن نقول إن المجتمع شيء فقط وليس بكل شيء، وإن عليه ذنوباً وليست عليه جميع الذنوب، فالقدريون إذن غير مستريحين، و (الحوقلة) من نوع جديد هي كل ما يعبرون به عن هذا القلق المستحدث: قلق التفسير المادي للتاريخ!
ومهما يبلغ هؤلاء القدريون الجدد من الحوقلة فما هم بقادرين على إلغاء الفرد وإنكار قسطه من توجيه التاريخ، وبخاصة حين يكون من عظماء الأفراد
قالوا مثلاً ما طاب لهم أن يقولوا عن المظالم التي ضيقت على الناس منذ قرون فهجروا بلادهم إلى القارة الأمريكية، وقالوا ما طاب لهم أن يقولوا عن الأسباب الاقتصادية التي حفزت أناساً إلى البحث عن طريق جديد إلى الهند، فعثروا من طريق المصادفة على تلك القارة الأمريكية.
ولكن الذي قالوه كله لن يفسر لنا الفوارق بين الناس في التأثر بالمظالم أو بالعوامل الاقتصادية؟
فالمظالم قد نزلت بملايين من الناس، والعوامل الاقتصادية قد أحاطت بملايين من الناس، فلماذا وجد فيهم من ينفر من الظلم فيهجر بلاده ووجد فيهم من يستكين إلى الظلم فيقيم حيث أقام؟ ولماذا قنع أفراد بالشظف وطمح أناس إلى الوفر والثراء في قطر مجهول؟
أهي العوامل الاقتصادية التي فرقت بين فرد وفرد في حظوظ الحياة وملكات الشعور؟
وإذا كانت العوامل الاقتصادية لم تخلق هذا فمن أين لها أن تلغيه، وكيف يسعها أن تفسر التاريخ وهذه الفوارق الحيوية باقية عندها بغير تفسير.