كانت نظم الحكم في الدولة العثمانية واحدة، وكانت أسباب المعيشة بين رعاياها متماثلة أو متقاربة، ولكنها كانت تدين اليوم لسلطان قوي فإذا هي قوة مخيفة لمن حولها، ثم يخلفه على الأثر سلطان ضعيف فإذا هي مطمع لكل طامع فيها
فكيف ينكر المنكرون مع هذا أن اختلاف الأفراد لا يغير ولا يبدل في حوادث الأمم وحركات التاريخ؟
وسألنا سائل: ماذا يكون (صلاح الدين) لولا الحروب الصليبية؟ فسألناه: وماذا تكون الحروب الصليبية لولا صلاح الدين؟ بل لماذا تغيرت الوقائع كلما تغير القواد في تلك الحروب وفي جميع الحروب؟
والطريف في مناقشات هؤلاء القدريين أنهم يعقدون المقارنة بين الأبطال والحوادث ليرجحوا نصيب الحوادث على نصيب الأبطال، فيضعون صلاح الدين في كفة ويضعون الحوادث الصليبية في كفة أخرى، ويفعلون مثل ذلك في جميع الحوادث وجميع الأقدار، فإذا هم يبدعون للناس وزناً لا يستقيم في ميزان لأن المقارنة إنما تنعقد بين الأمثال والأشباه؛ فتنعقد المقارنة بين الحروب الصليبية وبين الغارات التترية، أو بين حروب الإسلام وحروب المسيحية، أو بين الثورة الفرنسية والثورة الروسية، ثم تنعقد المقارنة بين القواد هنا والقواد هناك، وبين العظماء في نهضة والعظماء في نهضة أخرى، ليتبين لنا ما استطاعه هؤلاء وما استطاعه هؤلاء، ويثبت لنا الميزان رجحان هذا أو رجحان ذاك.
أما من هو الأرجح: صلاح الدين أو الحوادث الصليبية؟ فهو ميزان لا يفيد ولا يدل على شيء، ولا يثوب إلى أصول
أو الوجه الصحيح في بيان فعل صلاح الدين وفضله أن تنعقد المقارنة بينه وبين فرد آخر ممن كانوا في عصره ولم يفعلوا مثل فعله ولم يؤثر لهم فضل كفضله. فيقال إنه فعل وأن غيره لم يفعل، وأن اختلاف الأفراد يؤدي إلى اختلاف الأفعال.
لكن الغرام الذي ملك على هؤلاء القدريين ألبابهم هو غرام البخس والانتقاص، وأقرب طريق إلى البخس والانتقاص أن يكون العظماء فضولاً وترفاً (مستغنى عنه). . . لأنهم أفراد وليسوا بمجتمع وافر التعداد!
نحن أبناء الشرق أحرى الناس أن نفلت من إرهاق هذه الآفة، لأننا قد فنينا في المجتمع