آلافاً من السنين. فحق لنا أن نعطي الفرد أمداً من الحرية يرتع فيه جيلاً أو جيلين، ولو على سبيل التجربة إلى حين!
على أن الحقيقة البينة التي نؤمن بها أن المستقبل للفرد إلى آخر الزمان إن كان للزمان آخر نستقصيه، وأن التاريخ الإنساني هو تاريخ الفرد في اضطلاعه بالحقوق والواجبات. فكلما أوغلنا في القدم رجعنا على التوالي إلى أزمنة تقل فيها حقوقه كلما تقل فيها واجباته، وكلما تقدمنا مع الزمن كانت آية التقدم أن الفرد يزداد في تبعاته أي يزداد في حقوقه وواجباته، ويعرف له شأناً في المجتمع مستقلاً به ما وسعه أن يستقل، أو هو على الجملة أوفر استقلالاً مما أتيح له في مجتمعات الزمن القديم.
ومقاييس التقدم كما قلنا في بعض كتبنا (كثيرة يقع فيها الاختلاف والاختلال: فإذا قسنا التقدم بالسعادة فقد تتاح السعادة للحقير ويحرمها العظيم، وإذا قسناه بالغنى فقد يغنى الجاهل ويفتقر العالم، وإذا قسناه بالعلم فقد تعلم الأمم المضمحلة الشائخة وتجهل الأمم الوثيقة الفتية، إلا مقياساً واحداً لا يقع فيه الاختلاف والاختلال، وهو مقياس المسئولية واحتمال التبعة. فإنك لا تضاهي بين رجلين أو أمتين إلا وجدت أن الأفضل منهما هو صاحب النصيب الأوفى من المسئولية، وصاحب القدرة الراجحة على النهوض بتبعاته والاضطلاع بحقوقه وواجباته، ولا اختلاف في هذا المقياس كلما قست به الفارق بين الطفل القاصر والرجل الرشيد، أو بين الهمجي والمدني، أو بين المجنون والعاقل، أو بين الجاهل والعالم، أو بين العبد والسيد، أو بين العاجز والقادر، أو بين كل مفضول وكل فاضل على اختلاف أوجه التفضيل.
(فاحتمال التبعات هو مناط التقدم المستطاع)
ومعنى ذلك أن التقدم هو الاعتراف بالفرد والاعتراف بشأنه في المجتمع، والخروج به من ربقة القدرية التي تفرض عليه سلطاناً يستغرقه ويطويه.