للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

والأدب. وهو يقول في حديثه عما شجر بينه وبين أبي بكر الخوارزمي: (فقلت يا أبا بكر هذه اللغة التي هددتنا بها وحدثتنا عنها، وهذه كتبها وتلك مؤلفاتها، فخذ غريب المصنف ان شئت، واصلاح المنطق ان أردت، وألفاظ ابن السكيت ان نشطت، ومجمل اللغة ان اخترت، فهو الف ورقة، وأدب الكاتب ان اردت، واقترح على أي باب شئت من هذه الكتب حتى اجعله لك نقدا، واسرده عليك سردا، فقال اقرأ من غريب المصنف رجل ماس خفيف على مثال مال وما أمساه فاندفعت في الباب حتى قرأته فلم أتردد فيه، وأتيت على الباب الذي يليه، ثم قلت اقترح غيره، فقالوا كفى ذلك، فقلت له اقرأ الآن باب المصادر من أخبار فصيح الكلام ولا اطالبك بسواه، ولا اسألك عما عداه، فوقف حماره، وخمدت ناره، وقال الناس اللغة مسلمة لك أيضاً فهاتوا غيره، فقلت يا أبا بكر هات العروض، فهو أحد أبواب الأدب وسردت منه خمسة أبحر بألقابها وأبياتها، وعللها وزحافها، فقلت هات الآن فأسرد كما سردته. . .).

وقد أعجب الناس بذكائه وبديهيته، وتحدى هو الناس بهما فجاءه كثير من منشآته عفو البديهية، ولو روى فيه لجاء خيراً من ذلك.

قال الثعالبي في اليتيمة: (ولم ير ولم يرو أن أحداً بلغ مبلغه من لب الأدب وسره، وجاء بمثل إعجازه وسحره، فانه كان صاحب عجائب، وبدائع وغرائب، فمنها أنه كان شديد القصيدة التي لم يسمعها قط، وهي أكثر من خمسين بيتاً، فيحفظها كلها ويؤديها من أولها إلى آخرها، لا يخرم حرفا ولا يخل معنى، وينظر في الاربعة والخمسة أوراق من كتاب لم يعرفه ولم يره نظرة واحدة خفيفة ثم يهد بها من ظهر قلبه هداً، ويسردها سرداً. وهذه حاله في الكتب الواردة عليه وغيرها. وكان يقترح عليه عمل قصيدة أو انشاء رسالة في معنى بديع، وباب غريب، فيفرغ منها في الوقت والساعة والجواب عنها فيها. وكان ربما يكتب الكتاب المقترح عليه فيبتدئ بآخر سطر منه ثم هلم جرا إلى الاول، يخرجه كأحسن شئ وأملحه، ويوشح القصيدة الفريدة من قوله بالرسالة الشريفة من انشائه، فيقرأ من النظم والنثر، ويروي من النثر والنظم، ويعطي القوافي الكثيرة فيصل بها الأبيات الرشيقة. ويقترح عليه كل عويص وعسير من النظم والنثر فيرتجله في أسرع من الطرف على ريق لا يبلعه، ونفس لا يقطعه، وكلامه كله عفو الساعة. . . وكان يترجم ما يقترح عليه

<<  <  ج:
ص:  >  >>